بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 أيار 2023 12:00ص نعم لانتِخابِ رَئيسٍ يَحكُم لا لتَعيينِ رئيس مُتحكَّم به

حجم الخط
إنها الجلسةَ الثانيَةُ عَشر (وَفقَ التَّوقيت الشَّرقي المُمانع) والجَلسَةَ الأولى غير المُكتملةِ (وَفقَ التَّوقيتِ الغربي السِّيادي) والتي من المُفترَضِ أن يَدعو إليها رئيسُ مَجلِسِ النُّوابِ لانتِخابِ رئيسٍ للجُمهورِيَّة، ورَغمَ ذلك يُصِرُّ الفريقُ الأوَّلُ على تَعيينِ رَئيسٍ للجٌمهوريَّةِ خارِجَ القاعَةِ العامَّةِ لمَجلِسِ النُّوَّابِ على أن يُصارَ في ما بعدُ إلى إسباغِها بالمَشروعيَّةِ في جلسةٍ انتخابيَّةٍ صُوَرِيَّةٍ تُكرِّسُ التَّعيين؛ أمَّا الفَريقُ الآخر بما يَضُمُّ من سِيادِيين وتَغييريين فيبدو أنَّهُ لم يزل أقربُ إلى زُمرٍ مُتذَمِّرةٍ من موقفِ المُمانعَة ومُتنافِرَةٍ في ما بينها، مُختلِفِين على جِنسِ المَلائكةِ، ما يحولُ دون اتِّفاقِهم على مُرشَّحٍ واحِدٍ يُجمِعونَ عليه، ويمنحونهُ أصواتَهُم خِلالَ دورَةِ الاقتراعِ الثانيَةِ عَشر (وفق قاموسِهم) والجلسَةِ الثانية عشر (وفق قاموسِ المُمانعةِ)، إلاَّ أن الثابتَ لغايةِ الآن أن النَّتائجَ التي سَتُسفِرُ عن الجلسةِ لم تَتبلورَ بعد.
رغم وضوحِ النَّصِّ الدُّستوري، يبدو أن مَهارَةَ الفاخوري ومن يقفُ خلفها لها الغَلبَةُ في تَحديدِ: (متى وكيف ورُبما من) يُنتخبُ رئيساً للجُمهورِيَّة، أمَّا باقي المَعنيين فيبدو أنهُم يَقفونَ مٌنتَظِرينَ تَلقي الدَّعوَةِ لتلبيَها ولو لشربِ نَخبِها، ويُعزى ذلك لكون مُعظمُهُم من الهُواةِ المُبتدئين، ولافتقادِهم إلى التَّمرُّسِ في السِّياسَةِ، وعدمِ امتلاكِ البَعضِ منهم الجُرأةَ الكافيةَ لمُواجَهَةِ خصومِهم، وافتقادِ مُعظَمِهِم للحدِّ الأدنى من الحِنكَةِ السِّياسِيَّةِ التي تُمكِّنُهم من التَّعامُلِ على مُناوراتِ خُصومِهِم السِّياسيين بتَكتيكاتٍ سِياسِيَّة. وأخطرُ ما فيهم يتمثَّلُ في افتِقادِهِم لروحِ المُبادرةِ والاكتِفاءِ بردَّاتِ الفِعل، والتي بدورِها تبقى عاجِزَةً عن كبحِ جَماحٍ خُصومِهم بنَبرَتهِم الاستِعلائيَّةِ ومُيولِهِم التَّعطيلِيَّة.
كِلا الطَّرفين يُبدي ظاهريَّاً حِرصاً على السِّيادَةِ الوَطَنِيَّة، ولكن كِليهما في الواقِعِ يُسهِمانِ في استِدراجِ التَّدخُّلاتِ الخارجيَّةٍ ولو بنسبٍ مُتفاوتة لتَمريرِ الاستِحقاقِ الرِّئاسي، بل يَنشدانِه بَدلاً من العَمَلِ الجادِّ وبروحِيَّةِ الانتِماءِ الوَطني لإنجازِ هذا الاستِحقاقِ الوَطنَي في المَطبَخِ اللبناني ووفقَ الطَّريقَةِ اللُّبنانِيَّةِ وبنَكهَةٍ لُبنانيَّةٍ صرفةٍ تليقُ بلبنان كدولةٍ مُستَقِلِّةٍ ذاتِ سِيادَة.
لقد أُنهِكَ لُبنانُ بجُملةٍ من التَّأويلاتِ اللَّادُستوريَّةِ لأهمِّ نُصوصِ الدُّستورِ، والتي بغالِبَها واضِحَةَ القًصدِ وليست بحاجَةٍ لأيِّ شَرحٍ أو تَفسير، وشُوِّهَ نِظامُهُ السِّياسي بابتِداعِ فَرضِيَّاتِ غيرِ مسبوقةٍ تحت مُسمَّى التَّوافُقِيَّةِ حيناً والميثاقِيَّةِ أحياناً أخرى، والتي أدَّت إلى انتهاكِ أهمَّ المَبادِئ الدِّيمقراطِيَّةِ التي تَحكُمُ النِّظامَ البرلماني، وتَعطيلِ المُؤسَّساتِ الدُّستوريَّةِ، وشلِّ القِطاع العام، وتدميرِ مُقوِّماتِ الاقتِصادِ الوَطني، وإنهاكِ مالِيَّةِ الدَّولَةِ والقَضاءِ على القيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملَةِ الوَطنيَّة، وانهيارِ القِطاعِ المَصرِفي، واستِجرارِ أمواجٍ مُتلاطِمَةٍ من الأزماتِ المُتنوِّعَةِ الشَّائكَة.
لبنانُ، كما سائرِ المُواطنين اللُّبنانيين، لم يعد يَحتمِلُ تبعاتِ المُهاتراتِ والمُناكفاتِ السِّياسِيَّة، ولا الابتِزازَ السِّياسي، وقد نكونُ قد وصلنا إلى حَضيضِ الحَضيض، ورغمَ ذلك نرى أن لُعبَةَ عَضِّ الأصابِعِ هي الأسلوب المُعتمَدُ من قِبَلِ المُكوِّناتِ السِّياسِيَّةِ الفاعِلَةِ وبالتَّحديدِ تلك المُؤثِّرَةِ في استِحقاقِ الانتِخاباتِ الرِّئاسِيَّة، مع أنَّهم جَميعاً مُدركون لمَخاطِرَ التأخيرِ المُتعمَّدِ وغيرِ المُبرَّرِ لهذا الاستحقاقِ، وخاصَّةً أن تأخيرَ إنجازِهِ تَسبَّبَ ويتسبَّبُ في تعطيلِ استِحقاقاتٍ أخرى على قدرٍ كبيرٍ من الأهَمِّيَّة، أثارَ ويُثيرُ بعضُها هواجِسَ لدى مُكوناتٍ وَطنِيَّةٍ أساسِيَّةٍ من النَّسيجِ اللبناني، مَخافةَ تهميشِ دَورِ مُكوِّنٍ أو طُغيانِ مُكوِّنٍ على المُكوِّناتٍ الأُخرى. ويُشبِّهُ البعضَ ما يجري بسِياسَةِ استِغلالِ الفُرصِ التي يوفِّرُها الفراغُ لنَهشِ المَناصِبِ الهامَّةِ أو تناتُشِها والاستِمساكِ بها.
ثمَّةَ صِراعٌ خفيٍّ وغيرِ مُعلنٍ على (DATA) داتا المَعلومات المُتوفِّرةِ لدى مَصر ِف لبنان، والتي تَكمُنُ أهَمِّيَّتُها في كونَها تشمُلُّ كُلَّ المعطياتِ البيانيَّةِ ذاتِ العلاقةِ بالتَّحويلاتِ الماليَّةِ داخِل لبنان، كما بين لبنان والخارج، والتي تَكشُفُ أدوارَ جميعِ المُتورِّطين في الارتكاباتِ الماليَّةِ الدَّاخِليَّةِ، والتَّحويلاتِ الماليَّةِ التي هرِّبَت الخارِج، أو في تبييضِ أموالٍ مُلوَّثةٍ «ذات منشأ غير مَشروع»، والتي في مُعظَمِها نتاج أفعال يُجرِّمُها القانون، بدءاً باختِلاساتِ بنك المَدينَة، مروراً بالاستيلاءِ على مبالِغَ باهِظَةِ من أموالِ النِّظامِ العِراقِي السَّابِقِ والرَّشاوى التي تقاضاها عددٌ كبيرٌ من المَسؤولين السِّياسِيين ومُوظَّفين كبار في الدَّولة، والصَّفقاتِ العُمومِيَّةِ المَشبوهَةِ كما العمُلاتِ التي دُفِعت لتَمريرها، انتهاءً بما تمَّ تقاضيهِ وجمعُهُ أو تَحويلُهُ من مَبالِغَ ماليَّةٍ باستِغلالِ السِّياساتِ التي اعتُمِدت في دَعمِ بعضِ السِّلَعِ الاستِهلاكِيَّةِ وعَملِيَّاتِ ما سُمِيَ اصطِلاحاً بعمليات صَيرفَة. وليسَ بخافٍ على أحد أهميَّةَ هذه المعلومات، التي تُمكِّنُ من يَضعَ يدهُ عليها إلى كَشفِ عوراتِ جميعِ المُتورطينَ في الأمورِ الماليَّةِ المَشبوهَة، وتوفِّرُ له الإمكانيَّةَ لابتزازِهم سِياسِيَّا ورُبَّما مالِيَّا.
هذه الداتا المُنوَّهِ عن أهميَّتِها، هي نَفسَها جعلَت وتجعلُ كِبارَ المسؤولين في الدَّولةِ أكثرَ الحَريصينَ في الدِّفاعِ عن حاكِمِ مَصرفِ لُبنان الحالي، وتَصدُّرِ قائمةِ الرَّافضينَ لتسليمِهِ لأي قَضاءٍ أجنبي، وهذا ما يدفعٌهم للتَّذرُّعِ بالمبدأ القانوني الدَّولي القائلِ بأن الدَّولةَ «أيَّةِ دولةٍ» لا تُلزَمُ بتسليمِ رعاياها المَطلوبين قَضائيَّاً إلى دولةٍ أُخرى على أن تَتولَّى مُلاحَقَتَهُم بنفسِها، وهذا ما يُفسِّرُ بذل المسؤولين لكُل ما هو ممكِنٌ ومُتاحٌ للحؤولِ دونَ تمكينِ أيٍّ قضاءٍ خارجيّ مَشهودٍ له بكفاءتِهِ ونزاهتِهِ من مُحاكمَةِ حاكِمِ مَصرِفِ لُبنان وكَشفِ ارتِكاباتِ العديد منهم. وبذاتِ المنحى جاءت مُلاحَقتِه شبهِ الصُوَريَّةِ في لبنان، لتَزويدِهِ بوسيلةِ دفاعٍ إضافيَّةٍ تقومُ على مبدأ عَدَمِ جوازِ ملاحقةِ الفردِ بالجُرمِ ذاتِه مَرَّتين بعلَّةِ أنه مُلاحَقٌ في دولتِه بذاتِ الأفعالِ المَطلوبِ ملاحقتُهُ بها خارِجَها. ولم تَعُد تلك المُناوراتُ بخافيةٍ على أحد، كما أنها أضحت تُشكِّلُ عبئاً وإحراجاً للجميع بعد أن أضحى التَّهرُّبُ من المَسؤولِيَّاتِ يتِمُّ بذرائعَ واهِيَة.
ظاهريَّاً يُنادي البعضُ بضرورةِ إقالةِ الحاكمِ على خلافِ ما يرغب أو يُضمِر، والبعضُ الآخر يُناشدُ أن ينصحُ الحاكِمَ بأن يُبادِرَ إلى الاستِقالة، وبعضٌ ثالِثُ يقِفُ مُتفرِّجاً مُنتَظِراً مآلَ الأمرِ لكي يُبدي مَوقِفاً على ضَوءِ المُستَجِدَّاتِ القضائيَّةِ الخارِجِيَّةِ، وانِعكاساتِها السِّياسِيَّةِ على السَّاحَةِ المَحلِّيَّة، في الوقتِ الذي يقولُ كلُّ الفُقهِ والاجتهاداتِ بضرورةِ المُبادرةِ إلى كفِّ يدِّ المُوظَّفِ (أياً كان مَركَزُ الذي يَشغُلُه) في حال حُرِّكت ملفَّات قضائيَّةِ جدِّيَّةٍ بحَقِّه، أو إقالته وإحالته أمامَ هيئة أدبيَّة وملاحقتِه قضائيَّا؛ ورغمَ ذلك لم يَحصَل لغايةِ الآن أي شيء من هذا القَبيل، وهذا يثيرُ الرَّيبةِ والتَّساؤل عن الأسبابِ الذي تدفعُ بالحاكِمِ لعدَمِ الاستِقالة؟ كما عن تلك التي تَجعلُ السُّلطاتِ المَعنِيَّةِ قاصِرةً عن القيامِ بواجِبِها، حِمايَةً لِسِمعتِها على السَّاحتين المَحِّلِّيَّةِ والدَّولِيَّة، كما لتدارُكِ مُلاحقةِ المقصِّرين أو المُتورِّطينَ في إعاقةِ مُلاحقةِ متورِّطٍ في جرائمَ ذات توصيفاتٍ جِنائيَّةٍ وبجرائمَ خطرةٍ تنطوي على مبالِغَ ماليَّةٍ كبيرة؛ عِلماً أن ترك مُلاحَق بهكذا جرائمَ خطِرةٍ طليقاً ينطوي على مخاطرَ تمكينِه من الإفلاتِ من المُلاحقةِ والعِقاب. أما التَّبريرُ المنطقي لذلكَ فهو أهميَّةُ الدَّاتا والمُعطياتِ الماليَّةِ التي يحوزها الحاكِمُ المُلاحق دوليا ومَحلِّيَّا وقدرتُهُ على استِغلالِها لتَوريطِ من يُقَصِّرُ في الدِّفاعِ عنه أو يَمتنِعُ عن عَرقلةِ مُلاحَقتِه، وفي المقابل خِشيَةُ كِبارِ المَسؤولين الضَّالِعينَ بأي من الارتِكاباتِ التي سبق وأشرنا إليها من إفشاءِ الحاكِمِ لما اقترفوه منذ عقودٍ ولِغايَةِ اليَوم، وخاصَّةً أن مُعظَمَ المُتورِّطينَ لا تَروقُ لهم مُلاحَقةُ أيٍّ من المُرتكِبينَ خِشيَةَ أن تَتوسَّعَ المُلاحقاتُ وتَطالَهُم.
رغمَ كُلِّ التَّشاؤمِ الذي يُبديه البعض عن حُسنِ نيَّة، وما يُروِّجُ له البعضُ الآخرِ عن سوءِ نيَّة بأن ما فات مات وسيبقى طي الكِتمانِ والغُموض، نرى أن الأمور سائرةٌ إلى كَشفِ الكثيرِ من الارتِكاباتِ الآثمَةِ بحَقائقِها المُرِّةِ، وأعود وأذكِّرُ بما ذكرتهُ في مقالٍ سابقٍ وبدأت ملامِحُهُ تتكشَّف، بأن ما بعدَ قدومِ المُحقِّقينَ الأوروبيين ليس كما قبله. وبقولي الآخر أنه سيأتي يومٌ يندمُ فيه من أقدموا على تحويلِ أموالِهم إلى الخارج، لأنَّها ستمسي خارجَ سيطرتِهم، بل ستكونُ بمثابةِ أدلَّةٍ صارخةٍ يُستندُ إليها في إدانتِهِم.
كلُّ تلكَ المُعطياتِ توحي أن الأولويَّةَ لم تعُد للاستِحقاقَ الرئاسي إنما لمعركةِ الاستِحواذِ على داتا المَصرفِ المَركزي، ومن بعدِها ستنصبُّ مساعي انتِخابِ رئيسِ الجُمهورِيَّةِ على تَعيينِ رئيسٍ مُتحكَّمٍ به بالرَّغمِ من أن الوطن أحوجَ ما يكون لرئيسٍ يَحكُم لا مُتحكَّمٌ به.