(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (سورة قريش)
يمكن القول إنّ نعمة الأمن هي أمّ النعم، فبدونها لا يستقرّ للإنسان حال، لا في شؤونه الشخصية ولا في شؤونه العامة، وبدونها تصبح حياة الإنسان مهدّدة، وعقيدته وعبادته وانتماؤه مهدَّداً، ولهذا وغيره، ربط القرآن الكريم بين عبادة الله تعالى وبين التأمين من الخوف.
ما حصل في طرابلس ليس عابراً
من هذا الباب الواسع نلج إلى مقاربتنا لما تشهده مدينة طرابلس في الأسابيع الماضية من تطورات إيجابية مفتاحها نجاح الجيش اللبناني في ضبط محاولات إشعال الفتنة بين منطقتي جبل محسن والتبانة، واستخدامه جميع الوسائل في ضبط الأوضاع والحيلولة دون تحويل الاحتفالات التي قام بها مؤيدو رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى وقد لاندلاع مواجهات كان يُراد لها أن تمتدّ وتتطور لتحرق ما تبقى من مؤسّسات في الفيحاء، وتضرب السلم الأهلي فيها.
لم يكن ما حصل عابراً أو سطحياً. فقد اكتوت طرابلس بجولات من العنف والاضطرابات والفوضى المنظمة، التي كان يقوم بها من تمتّع بالتغطية التي مكّنته من إحراق المصارف علناً، ومن محاصرة سرايا المدينة وإحراق محكمتها الشرعية وبلديتها، من دون أن يخشى المجرمون المرتكبون لهذه الجرائم، حساباً أو عقاباً.
عاش أبناء طرابلس طيلة الأشهر الماضية هواجس أن يستيقظوا أو يناموا على وقع هجمات منسقة في شوارع مدينتهم، وعلى غياب الأمن عنهم، إلى أن كانت الصدمة الإيجابية في أداءٍ محكم ومحترف للجيش وقوى الأمن الداخلي، قمع كلّ من حاول الخروج عن النظام العام، وكان اللافت في هذا المجال إلقاء القبض على الجناة الذين اعتدوا على مركز حزب الكتائب وحاولوا إحراق مركز القوات اللبنانية، بينما كانوا في السابق ينسحبون تحت أعين القوى الأمنية، بغطائهم السياسي والأمني المعلوم.
وعيٌ ورفضٌ للاستدراج
في طرابلس أيضاً، حيث ظهرت مستويات وعي عالية وسرعان ما عبّرت هيئات المدينة الاقتصادية والدينية والاجتماعية عن إدراكها لأهمية ما فعله الجيش، بينما تأرجح موقف السياسيين بين التنويه من البعض والتجاهل والوجوم من البعض الآخر. لكنّ الأهم هو هذا المستوى من الوعي الشعبي، حيث تحركت أعداد كبيرة من الشباب الناشطين بين المناطق لردع كلّ أشكال الاستعداد للانخراط في اي نوع من أنواع الإخلال بالأمن، وبلغ هذا الوعي درجة متقدمة عندما رفض أبناء التبانة الاستجابة لاستدراج بعض وسائل الإعلام للحديث عن النعرات والخلافات وسائر أشكال الشقاق، وكان هذا أيضاً من أسباب إسقاط الفتنة خلال الأسابيع الماضية.
الجيش يُسقط حصانات المخرّبين
اليوم. أسقط الجيش حصانات المخرّبين، وأبلغ الجيش أنّ أي محاولة لضرب الأمن ستواجه بقوة وصرامة، وكان تحليق الطائرات المروحية والانتشار الكثيف وضبط الأوضاع في جبل محسن والتبانة والقبض على بعض المرتزقة من الذين يشتريهم رعاة الفتنة، ومصادرة أسلحتهم ومخازن ذخيرتهم، رسالة كافية ليفهم الجميع أنّ زمن الفوضى قد انتهى، وأنّ الجيش لن ينتظر الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة لتحدّد له ما يجب أن يفعل.
صحيح أنّ قيادة الجيش أعلنت التزامها بقرار السلطة السياسية، لكن أين هي هذه السلطة اليوم، وقد تركت الجيش لمصيره، فلم تتحمّل مسؤوليتها ولم تقم بواجباتها في تأمين مستلزماته الضرورية، وقيل للقائد جوزاف عون: إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا منصرفون لصراعاتنا على الكراسي والمناصب!
ربما يجب القول صراحة وبدون مواربة، إن سمعة الجيش وقائده، هي التي فتحت باب العواصم الدولية والعربية لمدّ يد العون للمؤسسة العسكرية، نظراً لإدراك مراكز القرار أنّ أيّ خلل يصيب قدرة الجيش على القيام بدوره، سيعني تلقائياً انفراطاً للوضع العام في لبنان، مع ما لهذا الأمر من تداعيات محلية وخارجية.
ملامح مرحلة جديدة
من طرابلس، بدأت تظهر ملامح السياسة الجديدة للجيش، وهي امتدت إلى الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، حيث حاول البعض العزف على أوتار المصالح الإقليمية أو توريط المؤسسة العسكرية في اشتباك أراده البعض استدراجاً يحتاجه طرف إقليمي يقوي الاستثمار الدائم في الصراعات.
وفي مجال مكافحة التهريب، تبرز منذ أشهر فعالية مميزة للجيش في التصدي لشبكات التهريب التي تتمتع بأغطية مختلفة، بدأت تسقط تباعاً، ومع عودة المساعدات العربية والدولية، سيتقدّم دور الجيش سريعاً في ضبط الحدود جنوباً وشرقاً، لوقف نزف المال اللبناني الآتي من مزاريب الدعم الفالتة.
تبقى مهمة جوهرية للجيش، هي منع أي مسعى انقلابي يتوسّل العنف طريقاً للتغيير السياسي، من دون أن يكون ذلك دعوة للصدام بين المؤسسة العسكرية وقوة الأمر الواقع المتمثلة في «حزب الله»، بقدر ما هي رسم حدود لحماية الحياة السياسية من تداعيات احتمال تكرار انقلاب السابع من أيار عام 2008، فما يحتاجه اللبنانيون، بمن فيهم الحزب، ولو ظنّ غير ذلك، هو عودة الدولة بكامل هيبتها وقدرتها، لأنّه لا يستطيع أحدٌ الحلول محلها، ولو جيّش المقاتلين ولو امتلك الأموال ولو امتدّ نفوذه وقتاله خارج الحدود.
إنّ الدولة حاجة لا يراها اليوم من أعمى بصيرته وهجُ السلاح، ولو أنّه يستيقظ من هذا الوهم، لجاء إلى حوار داخلي يمكّن اللبنانيين من الإفادة من سلاحه ومن الحفاظ على قوّته في إطار الدولة، فعليه أن يُسقط تلك العنجهية ويتخلّى عن الأحلام الامبراطورية، فقد سقط الذين خاضوا هذه التجارب من قبله، ليبقى الخيار هو خيار الدولة بمؤسساتها الشرعية الدستورية والأمنية.
ماذا عن الرئاسة؟
أمّا نقطة الجدل السياسي، فهي ما يقال عن الطموح الرئاسي للعماد جوزاف عون الذي ينفيه نظراً لتفرّغه الكامل لإدارة وضع البلد تحت وطأة الانهيار. وهنا نقول بكلّ صراحة: لقد وصل إلى سدّة الرئاسة قادة سابقون للجيش كان بعضهم جيداً، وكان بعضهم الآخر كارثياً، فلا يمكن إسقاط الحقّ في الوصول إلى الرئاسة لوجود العماد جوزاف عون في قيادة الجيش، وهذا قرار يعود إليه شخصياً. لكنّ المسألة المفصلية في هذا السياق هي ما إذا كان هذا القائد سينجح في تأمين الاستقرار المهدَّد بفشل الطبقة السياسية الفاسدة والمستقوية بالسلاح والمواقع.. وإذا تمكّن من عبور هذه الجلجلة، فإنه سيكون المرشح الطبيعي لإتمام المرحلة الانتقالية الإنقاذية، لإعادة بناء مؤسسات الدولة على قواعد الشفافية والحكم الرشيد.
في هذه المصارحة للبنانيين، لا يحتاج قائد الجيش إلى دعاية سياسية، بل يحتاج إلى تضامن وتكافل واحتضان لمساعدته في تحقيق الاستقرار، وهذا يستلزم وعياً وتوعية، سواء كان ذلك في الإعلام، أو في المجتمع. ليس على طريقة التأييد في المراحل البائدة، بل من خلال الحوار الهادئ والرصين ومن خلال تصدي النخب من أصحاب الخبرة والاختصاص للتعاون في أن يصبح الأمن اولوية، وأن يندفع الجميع لمعالجة تحديات الانهيار قبل أن يسقط السقف على الجميع.