بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تموز 2022 12:00ص نهج ثورة عبد الناصر في ذكراها الـ70 (1/4)

حجم الخط
تهلُّ الذكرى السبعون لثورة 23 تموز/ يوليو 1952, التي قادها البكباشي جمال عبد الناصر مع إخوانه من ضباط الجيش المصري المؤسسين لتنظيم الضباط الأحرار بعد مشاركتهم بحرب ١٩٤٨ بفلسطين، ضد عصابات الصهاينة المدعومة أصلا من القوى الاستعمارية آنذاك، بريطانيا العظمى وفرنسا المنتدبتين على فلسطين والأردن والعراق وقاعدة عسكرية بقناة السويس وهيمنة على الحياة المصرية في كل أرجاء مصر هذه كانت حصة بريطانيا التي قررتها الدول الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى تنفيذا لمعاهدة سايكس-بيكو الاستعمارية، وكانت حصة فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان فضلا عن استعمارها الطويل للجزائر ودول من المغرب العربي.
مهمة أحداث ثورة بمصر كانت غاية في الصعوبة والمخاطرة لأن أي خطأ يرتكب داخل المؤسسة العسكرية بمواجهة الحكم القائم نتيجته عقوبة الاعدام رميا بالرصاص، لكن لا يقدر على دفع ضريبة الدم غير الذين يقدّرون شرف الحياة، وهكذا حمل عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار قدرهم من أجل إنقاذ الوطن والشعب المصري ونجح إنقلاب الضباط الأحرار على الحكم الملكي وسمحوا للملك فاروق الخروج من مصر سالما خلافا لما هو معروف عالميا بقتل الملك والحاكم شنقا أو سجنه مدى الحياة إلى أن يلفظ أنفاسه وينقل من السجن إلى القبر. وكان الملك فاروق آخر ملوك أسرة محمد علي الالباني غير العربي وغير المصري وظلّ حكمه لمصر قائما منذ العام 1805 حتى قيام الثورة يوم 23 تموز 1952. وسرعان ما تحوّل انقلاب الضباط إلى ثورة عارمة انطلقت مع بداية طلوع فجر ذلك اليوم المجيد وليؤسس مرحلة جديدة في تاريخ النضال المتواصل للشعب العربي في مصر وبداية تجربة ثورية في جميع المجالات وسط ظروف متناهية في صعوبتها وظلامها وأخطارها، وتمكن الشعب المصري بانتمائه العميق لوطنه بل ولأمته في محيطه العربي أن يغيّر حياته تغييرا أساسيا وعميقا في اتجاه آماله الوطنية والعربية والإنسانية.
وامتدّ هذا التغيير الذي أحدثته هذه الثورة وبسنوات قليلة إلى كافة الشعب العربي بكافة أقطاره والى بلدان وشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والى قوى الحرية والتقدمية لدى الدول الكبرى، استعمارية وعادية، وذلك انتصارا لحرية الشعوب وحقها في نيل استقلالها.
وهنا أرى أن أروع وأعظم سرد لواقع هذه الثورة التي قلّ نظيرها في العالم القديم والمتوسط والحديث كونها ثورة خالية من الدماء والقتل وألوف بل ملايين الضحايا لثورات أخرى وخالية من التخريب والدمار للأوطان ووضع الوطن على مشرحة التقسيم والانقسامات جغرافية كانت أو بشرية، طائفية أو مذهبية، عنصرية أو عرقية جهوية فضلا عن استقلالية القرار وشجاعة الموقف ثم الالتفاف الشعبي المصري والعربي من المحيط الى الخليج والدور المصري المتعاظم وما تحقق من انجازات بسنوات قليلة.
ان أروع وأعظم سرد لمسيرة هذه الثورة وإنجازاتها هو ما أفاضت به وثائقها ومنها، كرّاس فلسفة الثورة الذي خطّه عبد الناصر بيده واعتبره مجموعة خواطر وليس كتابا لشرح أهداف الثورة وإنما أشبه ما يكون بدورية استكشاف, استكشاف لنفوسنا أولا, لنعرف من نحن وما هو دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات، واستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر وفي أي طريق نسير والظروف المحيطة بنا والميدان الذي نخوض فيه معركتنا الكبرى من أجل تحرير الوطن من كل الأغلال.
أوضح جمال عبد الناصر في هذه الوثيقة الأولى من وثائق الثورة أن ثورة 23 تموز هي تحقيق للأمل الذي راود شعب مصر منذ بدأ يفكر في أن يكون حكمه بيد أبنائه وأن يكون له بنفسه الكلمة العليا في مصيره، وأضاف: كنا ونحن نحارب بفلسطين ندرك أن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر أنها الفلوجة الأخرى المحاصرة على نطاق واسع، وقامت الطليعة بمهمتها بالثورة. كنا بحاجة إلى النظام فلم نجد وراءنا إلا الفوضى. كنا بحاجة إلى الاتحاد فلم نجد وراءنا إلا الخلاف، كنا بحاجة إلى العمل فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل. وكانت أعزّ أمانينا أن أسمع مصريا يقول كلمة إنصاف في حق مصري آخر. وأن أحسّ أن مصريا قد فتح قلبه للصلح والغفران والحب لإخوانه المصريين، ما رأيناه أنانية فردية مستحكمة، وكانت كلمة (أنا) على كل لسان وكانت هي الحل لكل مشكلة وهي الدواء لكل داء وهكذا هي في الاقتصاد والسياسة وفي كل الشؤون والشجون، (ما أشبه البارحة بمصر بما هو حاليا بلبنان).
لكنه وبعد تفكير عميق بما سمعه من محاوريه خاصة من أساتذة الجامعات والمثقفين قال، هذا رجل لو سألناه عن مشكلة صيد السمك في جزر هواي لما وجدنا عنده جوابا إلا كلمة/أنا/ أنا/ وهنا سأل نفسه هل كان يجب أن نقوم نحن الجيش بما قمنا به، لم يكن أمامنا مهرب أو مفر. وأردف: لكل شعب من شعوب الأرض ثورتان: ثورة سياسية يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه، وثورة اجتماعية تحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد، ولم يكن الجيش هو الذي حدّد دوره. في الحوادث بل كانت الحوادث وتطوراتها هي التي حددت للجيش دوره في الصراع الكبير لتحرير الوطن (وهنا لعل الذين خاصموا الثورة بالجهالة المتعمدة اتعظوا).
ان الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة وترابطها وتساندها ونكرانها لذاتها في سبيل الوطن كله، والثورة الاجتماعية من أول مظاهرها تزلزل تحكّم الفساد والكراهية والكفاية في الإنتاج وعدالة في التوزيع. أما الرؤية الاستراتيجية للتعاطي مع قضايا العالم حددت بثلاث دوائر: ١- دائرة عربيه تحيط بنا وهي منا ونحن منها. ٢- دائرة أفريقية. شاء القدر أن نكون فيها. ٣- دائرة فيها عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط العقيدة الدينية وحقائق التاريخ.
أما فلسطين من حصار الفلوجة إلى ١٥ أيار ١٩٤٨ إعلان الكيان الصهيوني بفلسطين وما بعده، ظلّت فلسطين حاضرة عند جمال عبد الناصر بكل أبعادها ومخاطرها وظلّ يقول اننا أقوياء ولكن الكارثة الكبرى أننا لا ندرك مدى قوتنا، فليست القوة أن تصرخ بصوت عالٍ إنما القوة أن تتصرف إيجابيا بكل ما تملك من مقوماتها. وهي ثلاث: - الأديان السماوية المقدسة الثلاثة. - أرضنا نفسها ومكانها الاستراتيجي على خريطة العالم. - البترول عصب الحضارة المادية.
إذن نحن أقوياء، ليس في علو صوتنا حين نولول، ولا حين نصرخ ولا حين نستغيث، إنما أقوياء حين نهدأ ونحسب بالأرقام مدى قدرتنا على العمل وفهمنا الحقيقي لقوة الرابطة بيننا، اننا منطقة واحدة لا يمكن عزل جزء منها عن كلها، ولا حماية مكان منها دون الآخر، ونحن أقوياء بدائرة أخوان العقيدة الذين يتوجهون معنا أينما كان مكانهم تحت الشمس إلى قبلة واحدة وتهمس شفاههم الخاشعة نفس الصلوات. ويجب أن يكون للحج قوة سياسية ضخمة ومؤتمرا دوريا يجمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها وعلماؤها، وملوك الصناعة والتجارة ووضع عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معا. وهناك إمكانيات هائلة يحققها تعاون المسلمين جميعا معا.