ظلّت العلاقات السعودية - الأميركية على مدار العقود الثمانية الماضية مثالاً يحتذى بعلاقة الحلفاء، ولم تتأثّر أو تتبدّل حتى مع أعنف الهزّات التي تعرّضت إليها؛ بفضل حكمة القيادات السياسية للبلدين، وحرصها على دعم وتعزيز تلك العلاقات وتجنيبها أية انعكاسات. وكان للزيارتين التاريخيتين اللتين قام بهما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى الولايات المتحدة خلال العامين 2016 و2018، دور أساسي في تمتين العلاقات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، وإضفاء زخم نوعي عليها، انطلاقاً مما يجمع البلدين من مصالح مشتركة في الجوانب العسكرية والدفاعية والاقتصادية والاستثمارية.
لكن تسبب اندفاع الإدارة الأميركية لتوقيع اتفاق نووي جديد مع طهران بمخاوف لدى السعودية، بالإضافة إلى الإمارات، وأدّى إلى تردّي العلاقات بينهما وبين واشنطن، لا سيما بعدما أزالت الأخيرة جماعة الحوثي اليمنية من على قوائم الإرهاب، وردّت بشكل باهت على القصف المتكرر للجماعة الذي استهدف عدة مناطق مدنية في البلدين الخليجيين اللذين لطالما اعتُبرا من أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. ومن ثم شكّلت أزمة أوكرانيا مناسبة لكي ترد السعودية والإمارات على الموقف الأميركي العدائي تجاههما، حيث رفضت الأولى بدايةً زيادة إنتاج كميات النفط، بينما امتنعت الثانية في إحدى المرات عن التصويت ضدّ روسيا في مجلس الأمن غداة هجومها على أوكرانيا.
ولاحقاً عندما انتكست المفاوضات الأميركية مع طهران نتيجة تدخّل الروس بعد أن كان الاتفاق النووي على وشك التوقيع، وعندما ضعفت شعبية الرئيس بايدن مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي، كل هذه العوامل ضغطت على الديمقراطيين للسعي لاستعادة تأييد جمهورهم من خلال السيطرة على أسعار النفط، والالتجاء للسعودية التي هي الدولة الوحيدة القادرة على تهدئة مخاوف السوق. كما ازدادت رغبة واشنطن في تحسين العلاقات مع دول الخليج إلحاحاً متجدداً بعدما وجدت أن أوروبا بحاجة ماسّة إلى خفض اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا.
لذلك اتخذ البيت الأبيض منذ أيام خطوة هامة قوامها الاعتراف بالدور الذي قام به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في السعودية، قبل زيارة من المتوقع أن يقوم بها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الرياض. حيث قالت المتحدثة بإسم البيت الأبيض كارين جان بيير للصحافيين يوم الخميس الواقع في الثاني من حزيران 2022 أنّ العاهل السعودي الملك سلمان وولي العهد يستحقان الثناء على دورهما في تمديد الهدنة في اليمن، وأضافت أنّ الهدنة لم تكن ممكنة دون انتهاج الدبلوماسية التعاونية من السعودية. وأشادت بشكل خاص بقيادة الملك سلمان وولي عهد المملكة العربية السعودية.
والحقيقة أنّ السعودية تقدم دوماً مصالحها الوطنية على مصالح حلفائها الدوليين، وباتت اليوم منفتحة على إقامة شراكات وعلاقات مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا. لهذا فإنّ عودة العلاقات بين الجانبين السعودي والأميركي بحسب التحاليل ومجريات الأمور لن تتحسّن بمجرد الزيارة إلى ما كانت عليه من قبل، نظراً لأن المملكة لديها العديد من المطالب التي تريد تحقيقها قبل ذلك. فالإدارة الأميركية الديمقراطية التي اتخذت مواقف تقاربية مع طهران، أدركت اليوم مدى الحاجة للسعودية بعد ارتفاع أسعار النفط نتيجة الأزمة الأوكرانية، واقتراب انتخابات التجديد النصفي. كما أنّ المملكة لديها مسؤوليات غير مسبوقة اليوم، سواء على الصعيد الوطني أو على صعيد ملفات المنطقة بشكل عام، خصوصاً أن بايدن هو من بادر بإعلان مواقف سلبية تجاه الرياض قبل تسلّمه الرئاسة وبعد ذلك. وبالتالي، إذا أرادت واشنطن أن تستجيب السعودية لمطالبها فعلى أميركا أن تستجيب أيضاً لمطالب السعودية، وخاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني ونشاطات طهران المزعزعة في المنطقة، وكذلك صفقات الأسلحة الدفاعية التي كانت السعودية قد تعاقدت حولها مع الولايات المتحدة. وإذا لم يحدث ذلك فإنّ الرياض ستصطف بشكل وثيق مع الصين وروسيا، أو على الأقل ستظل محايدة بشأن القضايا ذات الأهمية الحيوية لواشنطن، كما فعلت مع أوكرانيا.
كل ذلك هو نتيجة إهمال الإدارة الأميركية لملف الشرق الأوسط بسبب قرار وضع المنطقة في أسفل قائمة أولويات السياسة الخارجية لواشنطن؛ وهو القرار الذي كان قد اتخذه الرئيس باراك أوباما، وتبنّاه الرئيس دونالد ترامب، ويفرضه الآن بايدن. ونتيجة تقليل واشنطن من شأن الالتزامات التي كان شركاؤها في الشرق الأوسط ينتظرونها من حليفهم، والآن بات عليها أن تتكيّف مع العواقب المرتقبة.
خلاصة القول، إنّ الزيارة الرئاسية الأميركية جاءت نتيجة إدراكهم خطأهم الكبير، وجاءت متسرّعة تريد أن تعوّض للسعودية قبل زيارة الرئيس الصيني لها والتي ربما تأتي بنتائج في غير صالح الإدارة الأميركية الحالية، وتؤثر بشكل كبير على فرصهم للفوز قبل انتخابات الكونغرس في تشرين الثاني؛ والتي من المتوقع أن يخسر فيها الديمقراطيون كثيراً من المقاعد، ولهذا أقرّ جو بايدن أخيراً بدور القيادة المميّزة للملك وولي العهد. ولكن للأسف فإنّ الحالة الذهنية للرئيس جو بايدن التي كانت بعيدة كل البُعد عن إدراك الواقع وبدأت تثير قلق الأميركيين فعلاً، ليست محصورة في سن الرئيس، وإنما هي انعكاس تام للحالة الذهنية للإدارة الأميركية برمّتها.
* محامٍ وأستاذ جامعي