بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 كانون الثاني 2021 12:02ص هكذا تسرق أحزاب السلطة المتنازعة غضب الناس في طرابلس

حجم الخط
يطغى الإجماع على أنّ طرابلس مدينة تجمع كلّ عوامل الاستهداف وهذا ليس جديداً، فعلى مرّ العقود السابقة جرى التنكيل بالمدينة عسكرياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وإعلامياً، لينتهي المطاف بـ«منحها» لقب المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان هذا قبل الانهيار الاقتصادي وقبل جائحة كورونا، والجامع المشترك لكلّ مراحل استهداف طرابلس هو كونها معقلاً سنياً سيادياً عربياً لا تتعب من حمل هذه الهوية النابذة للتطرف والطاردة للإرهاب.

من العجائب المستهجنة والمستنكَرة أن تكون طرابلس، وهي المدينة الأكثر تعرّضاً للظى الإرهاب ونيران العدوان، محكومة دائماً بإلصاق صورة الإرهاب بها، في مفارقة تشترك فيها مع أخواتها من مدن السنة في العالم العربي، وخاصة في سوريا والعراق.. حيث تحمل طرابلس على كاهلها عبء الحصارات الطويلة من نظام آل الأسد، ولا تزال جدران «تقواها» و«سلامها» وأرواح شهدائها وعيون جرحاها تنتظر عدالة باتت مستحيلة مع سيطرة الممانعة على السياسة والأمن والقضاء في لبنان.

أحداث منتظرة واستغلال معيب

كانت كلّ عوامل الغضب والانفجار مهيأة في طرابلس، وعوامل الاستغلال والاستثمار والنفخ في كير الفتنة والاصطدام العنيف بالأجهزة الأمنية وإعادة تحويل المدينة صندوق بريد، جاهزة أيضاً، بناءً على النتائج الطبيعية لعملية الحرمان والتهميش والتجهيل والتجويع الطويلة الأمد التي تعرّضت لها المدينة وجوارها. 

لهذا دخلت القوى السياسية المتصارعة حلبة ساحة النور وألقت بأثقالها ودفعت بمن استطاعت تجنيدهم للولوج في صدامات متداخلة، لكلّ طرف فيها حساباته وأهدافه، فركب أهل السلطة المتصارعون موجة غضب الناس ليختبئوا خلفها ويستغلوا كما هي العادة آلام أهل المدينة ويحرفوا البوصلة ويُجهضوا جهودهم لاستنهاض القوى ومواجهة هذا الطغيان المتمادي لسلطة فقدت كلّ مبرّرات وجودها.

هكذا تحوّلت الاحتجاجات المُحقّة إلى مساحة استغلال سياسية، ترجمتها الأجهزة الأمنية في تناحرها عبر فرق المحتجين والتحكّم بهم لإيصال الرسائل التي كان يفهمها سريعاً الخصوم الساعون لركوب باص الحكومة معاً، والمختلفون على حصصهم في المقاعد.. فأمعنت هذه الأجهزة في منازعاتها فازدادت وتيرة استقطاب للفتيان الواقعين تحت وطأة الفقر والحرمان، ولعل هذا يفسر جزءًا من ارتعفاع أعداد هذه الفئة من المشاركين في الاحتجاج، فإذا بالتظاهرات تتحوّل أعمال شغب غير مفهومة السياق والأهداف، فهل يعلم أحد لماذا كان هذا الهجوم المركز على سرايا طرابلس ولماذا الإصرار على اقتحامها وإحراقها ولماذا إحراق مخفر التل والإمعان في استهداف قوى الأمن الداخلي؟ 

أي أهداف للتخريب؟

ما هو الهدف الذي يمكن الوصول إليه من خلال هذه الحملة في المدينة على قوى الأمن وإحراق سياراتها، وماذا بعد تحطيم سور السرايا.. سوى أنّ هناك في السلطة من يضرب تحت الحزام ويهدّد الأمن والاستقرار لِلَيّ ذراع الرئيس المكلف معتقداً أنّ الأخير سيتألّم إذا ضُربت قوى الأمن، وأنّه سيتنازل لجبروت الصهر ويقدّم له الثلث المعطل.

فات هذا العبقري أنّ الرئيس سعد الحريري ترك شعبة المعلومات أشهراً طويلة تحت حصار الرئيس نبيه بري عبر وزير ماله علي حسن خليل بسبب الخلاف على تعيين قائد منطقة الشمال في قوى الأمن ولم تُحلّ المشكلة إلاّ بتغييره بعد مدّة، ولهذا فإن باسيل لا يملك من وسائل الضغط على الحريري شيئاً لأنّ الأخير ما عاد يعنيه شيء سوى التواجد في السراي الكبير.

في المقابل، حاول تيار المستقبل تحريك الشارع السني في أكثر من منطقة مستفيداً من زخم الأحداث في طرابلس، لدعم موقف الحريري في تشكيل الحكومة، لكنّ تلك المحاولات باءت بالفشل لسيطرة الوهن على ما تبقّى من أنصار للمستقبل في الشارع، ولأنّ «أعدقاءه» في السلطة سبقوه وخطفوا حركة الشارع واستولوا عليها ليقلبوها ضدّه، فاضطرّ للتغريد والتحذير معتبراً أنّه «قد تكون وراء التحركات في طرابلس جهات تريد توجيه رسائل سياسية وقد يكون هناك من يستغل وجع الناس والضائقة المعيشية التي يعانيها الفقراء وذوو الدخل المحدود. وليس هناك بالتأكيد ما يمكن أن يبرر الاعتداء على الأملاك الخاصة والأسواق والمؤسسات الرسمية بحجة الاعتراض على قرار الإقفال. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن هناك فئات من المواطنين تبحث عن لقمة عيشها كفاف يومها، ولا يصح للدولة إزاء ذلك أن تقف موقف المتفرج ولا تبادر إلى التعويض عن العائلات الفقيرة والمحتاجة». 

يبقى أنّ دور «حزب الله» في هذه الأحداث حضر في خيوط رفيعة حاكتها مجموعات حضرت من مناطق تتموضع فيها حركة التوحيد أو كمال الخير في إطار ما يسمى سرايا المقاومة، وأسهمت بشكل واضح في تصعيد عمليات التخريب في شوارع طرابلس.

واقع التدخلات السياسية والتضارب الأمني لا ينفي وجود شرائح من أبناء طرابلس خرجوا بشكلٍ سلمي واحتجوا وأوصلوا رسائلهم الساخطة، لكنّ هؤلاء لا يستطيعون مجاراة المجموعات المنظمة من الفتيان المندفعين وفق التعليمات التي يتلقونها من هذه الجهة أو تلك، فضلاً عن غياب الأغلبية الساحقة من الناشطين والعاملين في مجال الاستنهاض الشعبي والجماهيري عن هذا النوع من التحركات لأنّها تتحوّل إلى عملية مجهولة المسار ومعروفة المصير، فهي تنتهي كلّ مرة بالصدام مع الأجهزة الأمنية وبنتائج عبثية لا تصلح للتفاوض ولا للمراكمة عليها.

أين المرجعيات الغائبة؟

ما يجري في طرابلس هو احتجاج مشروع قام بها أهل المدينة بشكلٍ تلقائي، واختطفته مجموعات مدفوعة من القوى المتنازعة في السلطة لأهدافٍ تتعلّق بكلّ واحدة منها، والواجب يحتّم على أبناء المدينة التصدي لهذه الاجتياحات التي ستعيد تحويل الفيحاء إلى مدينة مستباحة للغوغاء، ويبقى السؤال: أين المرجعيات السياسية والدينية في هذه المدينة ولماذا تغرق في صمتها المريب والجبان والمشبوه.. لماذا لا يُسمع صوتها ولا تتحرّك للتصدّي لهذه الموبقات التي تُرتكب بحقّ مدينة العلم والعلماء والعيش المشترك.. أم أنّ على قلوبٍ أقفالها؟!