ليست الدساتير بالنسبة للدول والشعوب والحكّام في العالم جدولاً للضرب وأرقاماً وحسابات طائفية وموازنات وميزانيات ورواتب وضرائب يسهل فيها الحسم في المسائل الجوهرية الخلافية، ولا هي تؤلّف نصوصاً مقفلة أو منزّلة أو مقدّسة للتمتمة والصلاة يصعب تبديل نقاطها وفواصلها إن لم نقل مقاطعها ومعانيها التي تكشف نجاحاتها وإخفاقاتها كلّها محكومة بالممارسة والتطبيق، فكيف إن كانت في مجتمعات شديدة التحرك، ومشدودة الديناميات وقليلة الإستقرار بمعناه الداخلي كما هو الواقع اللبناني؟
لماذا السؤال الطويل: لأنّه الموضوع المُضمر والمُقلق الطافي على السطوح بعد الإنتخابات البرلمانية وتكليف نجيب ميقاتي مجدّداً للمرّة الرابعة برئاسة الحكومة وتأليفها أو الإستمرار فيها مع بعض التبديلات أو الإنزلاق نحو مزيد من الانسدادات والتجاذبات القوية التي ستشلّ لبنان كليّاً بانتظار الأفكار الموضّبة المشحونة من خارج عربي إقليمي ودولي كما العادة.
الدستور روح الأمة، لا شعوبها بأرقامهم وأعدادهم وثقافاتهم المدمّرة للروح الجامعة التواصلية في الحكم.
يخرج لبنان اليوم على إيقاعات متراقصة بين الثوب المهلهل والإبرة، أعني ثبوت نصوص عذرية الدستور وتحولاته وتجاوزاته وتمزيق مضامينه وتغييرها وفقاً للأمزجة والمصالح والمقتضيات الداخلية والخارجية واجتراح القوانين والإجتهادات التوفيقية المستحيلة الفكاك بين الناقض والمنقوض.
خرج اللبنانيون بجروحهم من جمهوريتهم الأولى المحفوفة بالروح المستوردة بالمعنى الفلسفي الى جمهورية ثانية لقيطة لم يمارسونها ولم يختبروا عجينتها بقدر ما خلطوا الجمهوريتين بأمراض السلطات الطائفية الكثيرة والمزمنة، ليتحوّل الصراخ بالتغيير الى أنين الجياع والإنهيارات المتضافرة في الأوحال: كلّما تحركنا فيه أو تقدمنا خطوات كلّما غرقنا ولا من يرثي أو يرثّي. تحوّلت مساحاتنا الرثّة متشابهة قهرا وانقساماً لشعوب يابسة تحت نقطة الصفر، لكأنّ الدولة تدس أيديها في جيوبنا الفارغة، ونحن نرفع الأعلام متأهبين للنشيد الوطني اللبناني قبل انطلاق المظاهرات والإحتجاجات المتنوعة.
أسأل: كيف يكون العزف الوطني على أوتار رخوة؟ وهل وظيفة رئيس الجمهورية مثلاً الرقص على نشوة توقيعه مرسوم تكليف رئيس الحكومة فقط والتفرج على الجمهورية السعيدة من نوافذ بعبدا، وتوضيب الحقائب نحو الرابية، واللبنانيون يغرقون حسب تقديرات الخزانة الأميركية بنحو 800 مليار دولار من الأموال العامّة المسروقة، بانتظار علاجات «صندوق النقد الدولي» الذي يحلّ عليهم ضيفاً ثقيلاً وفقاً للتسمية الشعبية؟ وهل من صلب دستور الطائف أو من تقاليد الجمهورية الثانية أن يقبع الرئيس في بعبدا منتظراً أن يتبلغ تشكيلة الحكومة هدية المباشرة بتطبيق الدستور والحكم؟ أي دستور في جمهورية العتمة الشاملة؟ دستور الطائف أم دستور الـ1559؟
بين الناقض والمنقوض يمكنك أن تدخل وطناً من ثقب إبرة لكنك أعجز من أن تبرم إبرة لتختم جروحاً مزمنة هائلة من دون الإستعانة بالروح، روح الدستور، وهنا روح الطائف. لا نتصوّر أنّ مصطلحاً أكثر من كلمة «الطائف» حظي بهذا الكم من الحبر والنقاش والصراع بين اللبنانيين منذ ما يتجاوز العقود الثلاثة. بلى ربّما كانت تسمية «كامب دايفيد» شملتها الحظوة أيضاً في تاريخ العرب المعاصر كتعبير عن أبلغ فتق وأخطره في جسد بعض الأنظمة العربية، التي لفحتها الطراوة بالرغم من صلابة شعوبها ويباسهم أمام المعضلات القومية، وتلك مسائل ومآزق لم ندرك معانيها وتداعياتها الفعلية الحقيقية إلاّ بعد مرور تلك العقود تقريباً عندما انبثق الشرق الأوسط الكبير، ملامحه ومقدماته الدموية المتنقلة الحافلة بـ:«الفوضى الخلاّقة» Creator anarchy، لا المنظمة كما درج على ترجمتها كتّابنا وبعض السياسيين العرب. وهناك فرق بين المعنيين لا ندرك أهميته إلّا إذا عرفنا بأنّ المصطلح مأخوذ عن اليونانية القديمة وتعود بنا الى فلسفة أرسطو التي ترى بأنّ «الإبداع لا يزهو إلّا عند ترميم المهشّم من الأشياء والأفكار»، والمقصود هنا أن بناء الأوطان أو إعادة بنائها أو ترميمها لا يبدو أو يأتي خلاقا وإبداعياً إلاّ عند تفتيتها وتهشيم سلطاتها. وتتضاعف الخطورة لأنّ الدم اللبناني لم يسود بعد في الجروح اللبنانية الثخينة التي أورثتنا إيّاها الحروب الكثيرة المتنقلة في الربع قرن المنصرم، والتي لم تتمكن أوراق الطائف من امتصاصها نهائياً أو تجفيف سيلانها أو قطبها وختمها.
ليست المسألة أو المعضلة في الدستور اللبناني الذي لم ولن يطبق لا نصاً ولا روحاً، ولا في أيّ نص دستور قادم معدّل أو جديد عندما يصبح الزعيمٍ أقوى من الدستور، بل هو الدستور والنتيجة غموض وعجز عن تقطيب الجروح الموروثة والكثيرة المنتظرة بعد التأكد، بالطبع، من الموت أو استمرار النبض في القلب المعتلّ.