يا مصر يا ست الدنيا أين أنت اليوم؟ نبحث عنك، نسأل عنك، نتبع سيرك، تعبنا من الانتظار ومن البحث والسؤال والمسار. لم نصل لضالتنا بعد منذ وعينا لإنطلاقة ثورة ٢٣ تموز/ يوليو المجيدة ١٩٥٢ وكنت في العاشرة من العمر، كنا نردّد ما تعلّمناه من عائلاتنا ومن مجتمعنا ومدارسنا. مصر أم الدنيا، مصر هبة النيل، ونزلت الغمامة. ثم جاء الشعب العظيم بثورة يناير/ كانون الثاني وأشرقت الشمس من جديد وعاد ربيع مصر وأعادنا الى شم النسيم وعادت الروح الى الأمة العربية وكبرت الأماني والتمنيات، ولاحت إشراقات الحاضر والمستقبل الواعد، وعادت مخيّلتنا الى ثورة يوليو وزعيمها الخالد بقيادته وشجاعته وإخلاصه لأمته العربية التي نفتقدها في هذا الزمن الردئ، ومعارك مصر الوطنية الهائلة في كل الميادين: مقاومة العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ وبناء السد العالي في أسوان، إنشاء كتلة الحياد الإيجابي ودول عدم الانحياز وزعامة مصر البارزة وزعيمها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ودعم حركات التحرر والاستقلال للشعوب وكشف مخططات القوى الاستعمارية والصهيونية ومقاومتها بكل الوسائل وقيام أول وحدة عربية بين مصر وسوريا، وباتت مصر في ذلك الزمن الذهبي دولة قوية وصناعية ورائدة وصاحبة رؤيا التزمت بها مصر حرفيا ضمن دوائر ثلاث:
١- دائرة عربية تحيط بنا هي منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها.
٢- دائرة أفريقية شاء القدر أن نكون فيها ويدور صراع مروّع حول مستقبلها وستكون آثاره لنا أو علينا.
٣- دائرة إسلامية تجمعنا وإياها روابط العقيدة الدينية وحقائق الحياة. كل هذه حقائق أصيلة ذات جذور عميقة في حياتنا لا نستطيع أن ننساها أو نفرّ منها. ان الدائرة العربية هي من أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا. وبناء على ذلك أصبحت مصر قبلة دول وشعوب عربية وأفريقية وآسيوية وملاذا لقيادات عالمية بارزة في تحرر واستقلال بلدانها كثورة الجزائر الباهرة وإسقاط حلف بغداد لاستعماري الصهيوني المكوّن من أميركا وإيران الشاه وتركيا وغيرهم والحلف الإسلامي المنبوذ عربيا وإسلاميا، وكانت مصر بالحق والحقيقة والمسؤولية حامية الديار لها ولمن حولها ولم تجرؤ دولة أو أمة ما العدوان على أمة العرب أو إذكاء حروب أهلية طائفية أو مذهبية واحداث انقلابات ديمغرافية في مجتمعاتها أو الزعم بإمساك عدد من عواصمها خدمة لمآربها ومخططاتها. كانت مصر حاضرة في معارك التصدّي لأعداء الأمة هذا في جانب الدفاع عن الوجود الوطني والقومي ومعارك الإنماء والتطوير والتحديث كما حصل منها ومن قيادتها الثورية في دعم ثورة اليمن السعيد. وكانت مصر رائدة وقائدة في مجالات كثيرة في مدارسها وجامعاتها التي تستقبل مئات ألوف الطلاب من طلاب عرب لبنانيين وسوريين وأردنيين وفلسطينيين ومن طلاب الخليج العربي ودوله والمغرب العربي ومن آسيا وأفريقيا، وكانت المرجع والمصنع للثقافة العربية والآداب والصحافة والفن والسينما والمسرح، وكان الشعب العربي يتسمّر أمام وسائل الإعلام الوافدة من مصر وكانت إذاعة صوت العرب وأمجاد يا عرب أمجاد في بلادنا كرام أسياد التعميم اليومي الذي يستنهض الأمة وكانت مصر عن حق أم الدنيا.
مصر بالذات لم تعش حياتها في عزلة عن المنطقة المحيطة بها، بل كانت دائما بالوعي وباللاوعي في بعض الأحيان تؤثر فيما حولها وتتأثر به كما يتفاعل الجزء مع الكل، وتلك حقيقة ثابتة تظهرها دراسة التاريخ. ان البلاد العربية قسّمت بين الدول الاستعمارية وفق مطامعها بل وفق نزواتها، واخترع ساسة الاستعمار كلمات مهينة لتغطية الجريمة التي أقدموا عليها، ان ذلك كله تمّ بطريقة تحمل طابعا استفزازيا ولا تقيم وزنا لوجود الأمة العربية أو لكرامتها. ان سنوات طويلة سوف تمضي قبل أن تنسى الأمة العربية مرارة التجربة التي عاشتها في هذه الفترة محصورة بين الارهاب والإهانة.
ان الاستعمار ليس مجرد نهب لموارد الشعوب وإنما هو عدوان على كرامتها وكبريائها.
ان الحركات الشعبية تسلّم نفسها بعد ذلك للواجهات الدستورية الخادعة وتتصوّر بذلك ان الحرية استوفت حقوقها.
ان مصر عاشت منذ الزمان البعيد في منطقة لم تقم بين أجزائها حواجز أو سدود. قامت مصر بدورها في صدّ موجات غزوات الافرنجة ورد غزوات التتار، ما زال المستعمر ماضيا في خطة تشتيتنا، وما زال مشتبكا في معركة الغزو من الداخل.
هذه الفقرة الأخيرة من خطاب جمال عبد الناصر عن دور مصر وعدم انعزالها عن قضايا الأمة والتجربة المرّة والخطيرة مع الاستعمار. ولا ندري لماذا القيادة المصرية لا تستفيد من التجربة التي أرساها جمال عبد الناصر والمواثيق التي أقرّها الشعب المصري ومنها الميثاق الوطني الصادر في أيار ١٩٦٢. ومن أبوابه العشرة منها جذور النضال العربي، الديمقراطية السليمة، الانتاج والمجتمع، الوحدة العربية السياسة الخارجية. وبعد كل هذا العرض الموجز نسأل وأعتقد ان غالبية الشعب العربي تسأل معنا وهي التي عاشت على أمل التضامن والوحدة في أوطانها وبين دولها بدون خداع أو تضليل وموقف حاسم وحازم من فلسطين ومقاومة الاحتلال جنبا الى جنب مع الشعب الفلسطيني ومقاومته البطولية والتعاون مع الدول الصديقة في العالم، ونسأل أين مصر الشقيقة الكبرى والدولة الأكبر والأقوى؟ أين والأمة العربية تتكالب عليها دول شتى ومخططات خطيرة، تقسيما وتفتيتا، وإقامة دويلات طائفية ومذهبية وحروب أهلية وقواعد عسكرية أجنبية وتهجير مواطنين من أوطانها بالملايين مشرّدين أو غرقى في البحار والأنهار مع منع العودة الى أوطانهم تسهيلا للفرز السكاني بكل أنواعه ووسائله الإجرامية والعدوانية وتوسيع التطبيع مع إسرائيل والصهيونية العالمية والاعتراف بالكيان الصهيوني ومنحه المشروعية وإنهاء القضية الفلسطينية وإخراج الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من وطنه، ونسأل أين أنت يا مصر يا هبة النيل الذي يجري النزاع عليه، أين أنت يا مصر يا عبد الناصر الى متى سيطول غيابك عن أمتك العربية ودولها التي ينحر بها القسمة والتقسيم والهجرة والتهجير؟ أما آن للردة أن تقف، أما آن للتسلّط الحكمي أن يرتدع، أما آن لفجر الأمة الخالدة أن يسطع وليلها الأسود أن ينجلي وجامعة دولها العاجزة أن تنتهي واجتماعات قممها العربية أن تخجل من شعوبها وتنزوي. نسأل أما من عودة لقيم الأمة ومبادئها السامية النبيلة؟ وأخيرا يا مصر يا موطن الشعب البطل ويا دولة العرب ومكان الثقل والثقة هل تعودين، متى، متى متى.. وأمتك العربية بالانتظار؟!