بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 تشرين الثاني 2023 12:23ص أزمات مصرفية متكررة

حجم الخط
من الضروري فهم خصائص أي قطاع مصرفي، اذ يختلف عموما عن القطاعات الأخرى.  هو محكوم بقواعد سلامة خاصة ويخضع لقوانين واجراءات متخصصة.القطاع المصرفي هو عموما محلي اذ يأخذ ودائع من الداخل ويعطي قروضا في الداخل. لذا مخاطر البلد أو الاقتصاد تؤثر مباشرة عليه.  عندما يفلس مصرف أو تفلس عدة مصارف، يكون القطاع العام مشاركا في الاهمال وغض النظر، وبالتالي مشاركته في تحمل الخسائر واجبة وضرورية.  عندما يقوم القطاع الرقابي العام بواجبه، يكون القطاع المصرفي سليما ويحمي المودعين. معظم القطاعات الأخرى تستورد وتصدر وبالتالي لا ترتبط بنفس الدرجة بمخاطر الدولة.
تتكرر الأزمات المصرفية من فترة لأخرى لأسباب تتراوح بين الفساد والاهمال. بعد أزمة 2008 وضعت قوانين دولية جديدة، فظن العالم أن وقت الأزمات المصرفية ولّى الى غير رجعة. فجأة حصلت أزمة مصرفية جدية بدأت من مصرف SVB في كاليفورنيا الذي يعتبر المصرف السادس عشر أميركيا في الحجم، ثم مصرف Signature في نيويورك مما ترك تأثيرات سلبية كبيرة على النظام المصرفي الدولي.
بسبب حجم الأسواق الأميركية، أي أزمة تحصل في أميركا تؤثر على العالم أجمع على عكس الأزمات الأخرى التي تبقى محلية أو اقليمية. منذ أزمة 2008، تعدلت بعض القوانين الأميركية وبالتالي أصبحت الودائع الأقل من 250 ألف دولار مكفولة من قبل مؤسسة الضمان FDIC. حصلت الأزمة في مصرف SVB لسببين كبيرين أولهما سوء الادارة وعدم تنويع الميزانيات، وثانيهما الفوائد التي رفعها المصرف المركزي لمحاربة التضخم.  من أهم زبائن مصرف SVB الشركات الناشئة المطورة للتكنولوجيا، وبالتالي كانت خسائر افلاس المصرف تتخطى الموضوع المالي لتصل الى كل ما يطور الاقتصاد ويجدد ركائزه.  ليست هي المرة الأولى التي تنقذ الحكومة الأميركية خلالها الشركات الخاصة المتعثرة.  حصل ذلك مع شركتي GM وChrysler في 2009 مما ساهم في انقاذ قطاع السيارات الهام جدا للاقتصاد الأميركي.
أولا: من ناحية سوء الادارة في SVB وفي جانبي الميزانية، لم تكن الودائع منوعة لا قطاعيا ولا في أحجامها.  أتت أكثرية الودائع من الشركات الناشئة وبالتالي كان عامل التنويع مفقودا. في الأحجام، كان 96% منها كبيرا أي غير مكفول من قبل مؤسسة ضمان الودائع وبالتالي حصل ذعر ضمن مجموعة المودعين.  أما من ناحية التوظيفات وبسبب الاستقرارين النقدي والمالي في الولايات المتحدة، وظف المصرف أمواله في السندات الطويلة الأمد لضمان ربحية محترمة.
ثانيا: بعد أزمة 2008، قررت الادارة الأميركية اعفاء المصارف التي يبلغ حجم أصولها أقل من 250 مليار دولار من الرقابة الدقيقة الدورية. حجم أصول مصرف SVB بلغ 209 مليار دولار،وبالتالي لم يكن مراقبا بدقة.  لو لم تحصل تلك الاعفاءات، لربما بقي مصرف SVB عاملا.  كان من المفروض أيضا الطلب من المصرف تعزيز رأسماله ضمن رقابة موضوعية أشد وأدق.
ثالثا: بعد رفع الفوائد المتواصل من قبل المصرف المركزي الأميركي، تأثرت ميزانية المصرف من ناحيتي الودائع والأصول. من ناحية الودائع، زادت تكلفة خدمتها حكما، ومن ناحية الأصول تتحرك قيمة السندات باتجاه معاكس للفوائد.  لذا أصبح المصرف يخسر.
أفلس مصرف SVB وتبعه مصرف Signature وانتقلت الأزمة الى أوروبا وسويسرا تحديدا.  خوفا من أزمة مصرفية كبيرة وشاملة، قرر الرئيس بايدن ضمان كل الودائع أيا كان حجمها. هل كان القرار حكيما؟  من أين ستأتي الأموال لتغطية الخسائر وما هي السياسات الجديدة التي يجب اعتمادها لمعالجة أزمات مصرفية مستقبلية مماثلة؟
أولا: مع أن هنالك ودائع مصرفية كبيرة غير مضمونة في مصرف SVB قرر بايدن حمايتها خوفا من أن تنتقل الأزمة الى المصارف الأخرى بسبب قلق المودعين وخوفهم على أموالهم.  بهذه الطريقة وتجنبا لامتداد الأزمة، أوقفها بايدن بالرغم من تحذير بعض خبراء الاقتصاد الى أن اعتماد هذه السياسات الانقاذية سيشجع على التكرار كما يتناقض مع ركائز النظام الاقتصادي الحر. المودعون لم يتضرروا أذا، لكن من دفع ثمن الاهمال؟  خسر أصحاب الأسهم كل شيء كما المدراء الذين فقدوا وظائفهم. هذا لم يحصل خلال أزمة 2008 لكن تحقق اليوم وهذا تقدم ردعي كبير.
ثانيا: ستأتي أموال الانقاذ من مؤسسة ضمان الودائع وليس من الموازنة. من يمول المؤسسة؟  المصارف نفسها وليس دافعي الضرائب.الا أن المنطق يقول أن المصارف ستحول مصاريفها الاضافية الجديدة الى المودعين وبالتالي تعود التكلفة اليهم.
ثالثا: ما هي الحلول المستقبلية الممكنة؟ من الأفكار المطروحة ضمان كل الودائع وبالتالي على المودعين تحمل تكلفة أقساط التأمين تماما كما يحصل مع الضمان الصحي والآليات وغيرها. من الممكن رفع قيمة أقساط التأمين تصاعديا مع حجم الوديعة. عندها يزول الخوف من التأثيرات السلبية الضخمة للافلاسات، فتتحمل تكلفتها مؤسسة ضمان الودائع الممولة من أقساط التأمين.
رابعا: من الأفكار المطروحة اعطاء قروض عامة مدعومة للمصارف المتعثرة كي تحسن أوضاعها. لكن ماذا يحصل اذا لم يتحقق التصحيح وبقي المصرف متعثرا؟ هنالك من يعتقد ان حماية المصارف تأتي على حساب محاربة التضخم.  هذا يعني أن رفع الفوائد لمحاربة التضخم يؤذي ميزانيات المصارف وبالتالي تتشكل علاقة سلبية بين السياستين.
بعد أزمة 1907 في الولايات المتحدة تأسس المصرف المركزي، لكن الأزمات تكررت بسبب ضعف القرارات وعدم جدية الرقابة كما بسبب التهور الاداري. أما اليوم ومع كل الاصلاحات والتجارب والقوانين والقواعد، لن تخاف من امكانية حصول أزمات مصرفية بسبب التقدم التكنولوجي وصعوبة تطبيق الرقابة عليه أي على الابداع والتجدد. من الممكن أن تكون النتائج السلبية المستقبلية للأزمات المصرفية أقسى وأوسع وأكلف. أما دروس ما حصل مع مصرف SVB فواضحة لكل القطاعات المصرفية التي تريد تجنب الأزمات وتخفيف تكلفتها.