23 حزيران 2023 12:03ص الاقتصاد الروسي حتى بوتين

حجم الخط
هنالك وجهات نظر مختلفة جدا حول مسيرة الرئيس الراحل ميخائيل غورباشوف الذي تولى السلطة في الاتحاد السوفياتي في آذار 1985. تم اختياره للقيام باصلاحات سياسية واقتصادية كبيرة، لكنه تخطى الحدود وانتهى عهده في 1991 مع زوال الاتحاد وتقسيمه على الجمهوريات الـ 15 بزعامة روسيا التي حصلت على مقعد مجلس الأمن. وصول غورباشوف الى السلطة لم يكن أمرا عاديا، اذ كيف لنظام قاس وجامد أن يختار لقيادته رجلاً معروفاً بانفتاحه وشجاعته وتجدده وأفكاره الخلاقة؟ هل كان لغورباشوف خطة عمل واضحة لم يستطع تنفيذها أم على العكس كانت خطته تغيير كل شيء بدأ من النظام الى الجغرافيا وربما العالم؟ جرأته الظاهرة خلال الست سنوات التي حكم خلالها كانت يمكن أن تعرضه للعزل وربما للسجن، لكنه استطاع تنفيذ ما أراده لمصلحة الشعب كما يعتقد هو.
توفي ستالين في 5\3\1953 وكانت صورته الداخلية سلبية بسبب الممارسات العنيفة. أما اليوم، فيجري احياء صورته وتجميلها بالتزامن مع الحرب الأوكرانية. اعتقد غورباشوف أن مشكلة الاتحاد السوفياتي هي مركزية القرار في كل شيء مهم، وبالتالي كانت الانتاجية متدنية. حاول غورباشوف ممارسة الحكم ضمن المجتمع السياسي الذي كلفه بذلك، وبالتالي تحرك ببطء لتأمين نجاح النتائج وتغيير الأوضاع الداخلية. كان الاقتصاد متعسرا عندما تسلم الحكم. كان قطاع الخدمات بدائيا وهنالك ندرة في السلع الاستهلاكية. أما التكنولوجيا المعتمدة فكانت قديمة وذات نوعية سيئة. لم يكن باستطاعة الاقتصاد انتاج ما يعتبر أبسط السلع المنزلية الاستهلاكية أي جيدة ورخيصة في متناول المواطن العادي.20% من اليد العاملة كانت تعمل في الزراعة ولم يكف الانتاج لتلبية حاجات الشعب.
استخرج الاتحاد 8 مرات أكثر من الحديد مقارنة بالولايات المتحدة، لكنه لم ينتج الا ضعفي كمية الفولاذ الذي تنتجه أميركا. بناء معمل صناعي معين ممكن أن يأخذ 10 سنوات للتجهيز مقارنة بسنتين في الولايات المتحدة. في الزراعة مشكلة الانتاجية نفسها، أي أراض أوسع وانتاج أدنى بسبب التقنيات المتبعة والحوافز الممارسة. لذا اضطر الاتحاد السوفياتي لاستيراد القمح من أميركا نفسها وغيرها. كل هذه العوامل القانونية والمالية أثرت سلبا على النمو السوفياتي وجعلت الاقتصاد ينعكس على السياسة. هذا ما جعل غورباشوف يحاول تعجيل انتقال الاقتصاد أولا من وضع الى آخر ضمن العقيدة نفسها لأن في رأيه المشكلة هي في الممارسة وليس في العقيدة الاشتراكية. لكن النتائج الايجابية لم تحصل بسرعة والوقت ثمين، وبالتالي اعتمد غورباشوف عن قناعة فكرة الانتقال الى نظام آخر يرتكز على الحرية الاقتصادية.
في آخر 1986 بسبب النتائج الاقتصادية السيئة، قرر غورباشوف الانتقال الى نظام ديموقراطي يعتمد على حرية القرار وليس القوة مع اصلاحات اقتصادية عميقة وشجب كلياً التفكير الستاليني. في آخر 1988، أصبحت علاقاته مع الغرب قوية وخاصة مع الرئيس «الصديق» ريغان. كانت سنة 1989 مفصلية أي انتقال دول أوروبا الشرقية الى الحريات السياسية والأنظمة الرأسمالية بدأ من تشيكوسلوفاكيا الى بولندا وهنغاريا ورومانيا مع التتويج في برلين أي سقوط الحائط الفاصل بين الجزأين في 9\11\1989 وبالتالي توحيد ألمانيا وانتهاء الحرب الباردة. كان سوء الاداء الاقتصادي ربما أكثر من الحقوق السياسية وراء هذا الانتقال المدهش من الشيوعية الى الأنظمة الحرة بكافة أنواعها. الفارق الكبير بين غورباشوف وبوتين أن الأول أضعف الحكم المركزي لتقوية الحقوق الفردية، بينما الثاني يحاول تقوية المركز على حساب الحريات الفردية.
لم تكن النتائج الاقتصادية للاتحاد السوفيتي دائما سيئة. سنة 1970 كانت مفصلية اذ سقط النمو معها بسبب تراكم الأخطاء الناتجة عن ضعف المنافسة الداخلية وتقييد الحريات الاقتصادية. لكن الاقتصاد لم يعرف النمو حتى بعد غورباشوف. في عهد يلتسين تدنى الناتج المحلي الفردي الحقيقي 40%. في بداية التسعينات عانت روسيا من التضخم القوي أي 2000% سنويا كما تدنى العمر المرتقب بسبب تراكم سلبيات الصحة والغذاء والمال. خصخصت الادارات الروسية بعض القطاعات، لكن ذلك تم بعجلة دون تحقيق المنافسة الضرورية لتحسين الانتاج. انتقلت الخدمات من احتكارات عامة الى خاصة، فاستفاد منها عدد قليل من الأشخاص الذين أصبحوا أغنياء الى حدود غير مسبوقة. نجاح غورباشوف السياسي تشوَّه بالنتائج الاقتصادية السيئة.
حلم غورباشوف بوطن أوروبي واحد، أي عكس ما يحصل اليوم. اعتقد أنه من الممكن الحفاظ على الاتحاد السوفياتي من دون القوة أي عكس ما يحصل اليوم مع أوكرانيا. في 2019، قال الرئيس ماكرون أن روسيا أوروبية وأن الوحدة الأوروبية تمتد من البرتغال الى فلاديفوستوك. غيرت الحرب الأوكرانية ذلك كما تفكير الرئيس الفرنسي الذي شجب الهجوم الروسي. قال الرئيس بوتين أن حدود روسيا لا تنتهي، مما عزز الاقبال على دخول حلف شمال الأطلسي من دول كالسويد وفنلندا كانت تعتبر محايدة وبعيدة عن العسكر.
في كل حال، تغيرت أوروبا مع الحرب الأوكرانية الى درجة لا يمكن معها الرجوع الى الوراء. حدود الـ 1340 كلم بين روسيا وفنلندا اليوم غير سالكة عمليا بسبب التشنج السياسي وغياب الثقة والرغبة. بينما كان النقاش الأوروبي يرتكز قبل سنتين على تحديد مواصفات السلع ونوعية الخدمات، أصبح اليوم محصورا بالتجهيزات العسكرية والانفاق على الدفاع والأسلحة. انتقل النقاش داخل أوروبا حول ضرورة انتقالها من قوة ناعمة الى صارمة. من كان يظن أن ألمانيا التي عانت من الحروب الكبيرة تقرر انفاق 112 مليار دولار على الدفاع؟ هنالك تغيير كبير داخل ألمانيا حول السياسة والانفاق والدفاع سيتحدد مع الوقت. جمدت روسيا عضويتها في اتفاقية الحد من الأسلحة، بينما تحاول أوروبا الانتقال الى قوة عسكرية كبيرة. هل هنالك خيارات أوروبية أخرى؟ تغيرت أوروبا ولا رجوع الى الماضي.