بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آب 2023 12:14ص الاقتصادات الناشئة و«مارشال»

حجم الخط
في العالم اليوم، هنالك أزمات كبرى اقتصادية مالية بالاضافة الى مشكلة ديون تخص الدول النامية والناشئة التي لا تستطيع تسديدها بسهولة. هنالك تفاقم للعجز المالي وبالتالي للاقتراض وثم الديون. بلغت نسبة الديون الخاصة والعامة العالمية من الناتج 350% في 2021 مرتفعة من 200% في 1999 مما يشير الى حجم المشكلة.  في الولايات المتحدة، تبلغ النسبة 420% وبالتالي تشكل الأرضية للصراع الدائم حول رفع سقف الديون الذي يخوضه الحزبان دوريا في مجلس النواب.
لا مشكلة في الاقتراض، انما تكمن في أين تصرف هذه الديون أي على الاستهلاك أم على الاستثمار؟ تشير الوقائع دوليا الى أن أكثرية الديون تنفق على الاستهلاك وبالتالي تسبب الافلاسات.  لماذا هذه الرغبة في الاقتراض؟  الأسباب متعددة ومنها القدرة على حسم تكلفة الديون من الدخل الاجمالي.  كما أن هنالك سياسات عامة مشجعة للاقتراض شرط أن تنفق الأموال على النمو.  سياسة الفوائد المنخفضة على مدى عقود سابقة شجعت أيضا على الاقتراض.  المشكلة ليست اليوم كارثية لكنها تتطلب المعالجة من قبل القطاعين العام والخاص.  أسواء السياسات العامة هي تمويل الانفاق عبر الطبع النقدي.  لذا لا بد من وضع سياسات تشجع على النمو حتى لو اقتضى الأمر زيادة الضرائب تدريجيا.
المعلوم أن الاسواق الناشئة أنقذت مرارا الاقتصاد الدولي من السقوط.  حققت على مدى عقود نموا عاليا ساهم في تحسين أوضاع كل الدول.  لم تكن الاقتصادات الناجحة فقط في أسيا وانما توزعت على كل القارات.  أما اليوم، فالاقتصادات الناشئة تعاني من الأوجاع المؤلمة بسبب تراكم العوامل الخارجية كما الاهمال أو الفساد الداخليين.  هنالك ثلاثة أسباب خارجية كبيرة سلبية أولها الكورونا التي أرهقت موازناتها وسببت الموت لملايين الأشخاص.  هنالك الخلاف الصيني الأميركي الذي تعدى السياسات العادية ليصل الى قلب التجارة والمال والاستثمارات.  هذه الوقائع ساهمت في فرض رفع الفوائد من قبل المصارف المركزية الأساسية خاصة الأميركي.
ارتفاع الفائدة على الدولار ربما يفيد أميركا اذ تتحول اليها أموال ايضافية من الدول الناشئة بسبب جاذبية العائد الايضافي.  لكن الارتفاع يؤذي الدول المقترضة بالدولار ويسقط نقدها وهذا هو حال معظم الدول الناشئة ككوريا الجنوبية، مصر، تايلاندا، الهند كما الصين.  رفع الفوائد يؤذي كل الدول الناشئة التي تحمل ديونا مرتفعة وبالتالي تصبح تكلفة خدمتها أعلى في الموازنات الوطنية.  أما المسبب الثالث فهي الحرب الروسية الأوكرانية المؤثرة عليها وعلى الجميع والتي فرضت تضخما مرتفعا في كل السلع أهمها الغذاء والطاقة.
ما هي السياسات المتوافرة للدول الناشئة؟  ربما تتجاهل ما يحصل لعدم القدرة على المعالجة وبالتالي تتحمل زيادة الأوجاع.  يمكنها رفع فوائدها الداخلية لوقف خروج رؤوس الأموال وبالتالي تتأثر الاستثمارات كما النمو سلبا.  من الخطاء تحقيق تغييرات جوهرية في القوانين في وقت الأزمة، اذ تشير التجارب الى أن التسرع في هذا المضمار مضر ويؤدي عموما الى نتائج أسواء أي رجوع الى الوراء.  هنالك دول تحاول تبديل محفظتها من الديون من الدولار الى عملات أخرى لتخفيف الخسائر. في معظم الأحيان تلجأ الدول الى فرض قيود على رؤوس الأموال لمنع خروجها لأن الحاجة اليها في الداخل يكون كبيرا خاصة في ظروف أزمات.  كل هذه الحلول ليست فضلى لكنها ممكنة وتبقى أفضل من لا شيء.  عندما وقعت كوريا الجنوبية في أزمة نقدية، اتبعت سياسات ثلاثة أي شجعت المصارف على توفير الدولار في السوق وهنا كان دور كبير للمصرف المركزي، أوقفت الضرائب أو عمليا أجلتها وثالثا خفضت التغطية النقدية للديون من 100% الى 85% وبالتالي تدنت حدة الأزمة تدريجيا.
تردي أوضاع الدول الناشئة له جوانب متعددة اذ تعتبر تلك الدول وخاصة قسما منها قلب الاقتصاد الصناعي العالمي والجميع يتكل عليها لانتاج الأفضل بأسعار منخفضة.  وجودها ضروري ليس فقط للاستقرار الاقتصادي العالمي وانما للنمو.  لأن الماكينة الانتاجية الناشئة تبقى في غاية القوة، أي أزمة داخلها تؤثر سلبا على أسعار النفط وهذا ما يحصل.  هذا يفيد المستهلك العالمي ويعوض عن بعض التضخم المباشر الناتج عن الحرب الأوكرانية.
هل الخسائر الطويلة الأمد مؤكدة؟  ليس بالضرورة اذا ساعدتها الدول الغنية بدأ من الولايات المتحدة عبر خطة «مارشال» تماما كما حصل مع أوروبا وغيرها بعد الحرب العالمية الثانية.  الدولة التي ستحتاج الى مشروع مماثل هي حتما أوكرانيا التي خسرت حتى الآن ثلث انتاجها بالاضافة الى 13 مليون نازح وخسائر في البنية التحتية تفوق 115 مليار دولار.  من دول المنطقة، لا بد من خطط مارشال لسوريا واليمن والسودان وغيرها.  أما العراق، فقدراته المالية والثروة النفطية والمائية ربما تجنبه خطة مارشال مع شروطها وقيودها.  خطة مارشال الأصلية في أوروبا وخارجها التي استفادت منها 17 دولة كانت ناجحة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وهنا مصدر التفاؤل من ناحية الخطط المستقبلية.
تحديدا ماذا كانت ركائز خطة مارشال والتي لم تتعد 5% من الناتج المحلي الأميركي بدولار 1948؟ نوجزها كالآتي:
أولا: ضخ المال مباشرة لاصلاح البنية التحتية وانشاء أخرى حديثة في أوروبا بعد الحرب تم بنجاح ومع فوائد اقتصادية واضحة على المدى البعيد.  أوكرانيا ليست أوروبا الغربية وربما تحتاج الى مساعدات أعمق وأشمل لنقل الاقتصاد الى مستويات أعلى.
ثانيا: اذا أخذنا أوكرانيا كمثال بسبب تكلفتها العالية، من الممكن لأوروبا أن تتحمل القسم الأكبر من تكلفة الاعمار.  مجموع الناتج المحلي لدول الوحدة الأوروبية هو 85 مرة حجم الناتج الأوكراني وبالتالي تستطيع تمويل التكلفة حتى من دون الولايات المتحدة التي ستساهم حتما.  أما بالنسبة للدول الأخرى، ستتوافر الأموال من الدول القريبة والبعيدة عندما تنتهي الحروب ويأتي الحل السياسي النهائي.