بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 كانون الثاني 2024 12:00ص التعاون أم المواجهة؟

حجم الخط
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سيطرت الحريات الاقتصادية على النظام العالمي.  كانت النتائج العامة جيدة لكن المساوئ كبرت. مواضيع الفقر في حجمها وتوزعها ما زالت كبيرة ولم تعالج بالموارد الكافية، بل أنفقت مليارات الدولارات على تمويل الحروب المختلفة دون أن ننسى مليارات أخرى أنفقت على اكتشاف الفضاء والنجوم بالرغم من أهميتها.  توسع الشرخ المعيشي بين الميسورين والفقراء في معظم الدول.  أنتج النمو القوي الذي عرفه العالم منذ أربعينات القرن الماضي مشاكل بيئية كبيرة انعكست سلبا على المناخ.
قبلت الحكومات الغربية بمعالجة كل هذه المساوئ شرط عدم المس بالنظام الاقتصادي الحر، وبالتالي لم تكن النتائج بمستوى طموحات القوى الشعبية.  عقدت مؤتمرات بيبة كبيرة لمعالجة الارتفاع الحراري آخرها في دبي COP28، لكن النتائج على الأرض لم تصبح بعد بمستوى الطموحات.  هنالك نوع من الاجماع يدور حول ضرورة تغيير بعض السياسات الحرة والعودة ربما الى بعض الانغلاق مما يسمح بمعالجة الشوائب. لا يمكن القبول بالانغلاق بأي ثمن، لأن هنالك ضرورة أيضا للحفاظ على النجاحات التي حققها النظام الاقتصادي الحر.
أعطت مؤسسات «بريتون وودز» نتائج متباينة تبعا لأوضاع الدول المقترضة.  ليست هنالك «وصفة طبية» مؤكدة وناجحة للجميع.  تحاول الدول عبر مجموعات متنوعة حل المشاكل المشتركة لأن في «التضامن قوة».  لذا نشأت الوحدة الأوروبية واتفاقية «المركوسور» في أميركا اللاتينية وغيرها كما توسعت مؤخرا اتفاقية البريكس. نشأت فكرة البريكس في 2001 وكانت تضم 4 دول أضيفت اليها دولة أفريقيا الجنوبية في 2010.  كان المطلوب اعطاء هذه الدول التي تحتوي على نصف سكان العالم دورا أهم في الاقتصاد الدولي.  هنالك من يعتقد أن البريكس وضعت في مواجهة مجموعة G7 علما أن في كل من المجموعتين دولة واحدة تسيطر على الوضع.  في البريكس الأصلية، يعادل الناتج الصيني ضعفي مجموع ناتج الدول الأربعة الأخرى أو أكثر.  في مجموعة الدول السبعة، ناتج الولايات المتحدة أكبر من مجموع ناتج الدول الست الأخرى.  أما ناتج الصين فيعادل تقريبا 75% من الناتج الأميركي.
ضمن البريكس، تحاول الهند التقدم لتصبح قبل نهاية العقد الحالي الاقتصاد الثالث في العالم.  أما البرازيل وروسيا فلم تستطيعا التقدم كما يجب بسبب المشاكل الداخلية والحرب الأوكرانية فيما يخص روسيا.  دخلت أفريقيا الجنوبية البريكس لأسباب سياسية وتاريخية تتعلق بالموقع والعلاقات، علما أن نيجيريا هي الاقتصاد الأفريقي الأكبر. أما الاضافات الأخيرة التي ضمت السعودية والامارات ومصر وغيرها فهدفت الى مشاركة كل القارات في النمو الجماعي.  فالمواجهة بين المجموعتين لن تعطي النتائج الخيرة لأنها ستكون عمليا مواجهة بين الولايات المتحدة والصين، وهذا ما يجب تجنبه. أما المنافسة بين المجموعتين على التفوق الاقتصادي والتكنولوجي، فهي مطلوبة لمصلحة الكرة الأرضية جمعاء.  أفضل الحلول هو التركيز على مجموعة العشرين G20 التي تضم الجميع ربما لمصلحة الاقتصاد والسلام العالميين.
في ظل الخلافات العالمية قبل ومع حربي أوكرانيا وغزة كما في ظل نتائج العولمة، هل من المفضل تغيير السياسات الاقتصادية وتحويلها من الانفتاح الى الانغلاق؟  فالسياسات الصناعية والدعم والعوائق الجمركية وتحديد الصادرات التي تطبق في كل الدول، حتى الصناعية، هي في ارتفاع وكأنها ستنقظنا من شر الفقر والصراعات المتنوعة.  فهل هذا صحيح؟
أولا:  هنالك خطر من أن يعيد الانغلاق أوضاع الدول النامية الى الوراء وهي التي استفادت من الانفتاح والمساعدات المالية والتقنية الآتية من الدول الغنية.  ميزت الدول كافة بين العلاقات السياسية والاقتصادية، وبالتالي الحلف السياسي ليس بالضرورة هو الحلف الاقتصادي.  العديد من الدول النامية وخاصة الأسيوية اتكلت على الصادرات وبالتالي على قدوم العملات الصعبة لتطوير اقتصاداتها.  دعم بعض القطاعات ربما يفيد الدول، لكنه في نفس الوقت يحرم قطاعات أخرى مهمة من الأموال ومنها التعليم والصحة والغذاء والمناطق الفقيرة.  فهل تكون سياساتنا صحيحة عندما نقرر اغلاق الاقتصاد عبر السياسات المقيدة للحريات؟
ثانيا:  من الضروري أن نعي أن الصين لم تتطور بفضل الانغلاق بل بسبب السياسات الداخلية التي سمحت برفع الانتاجية القطاعية وجذبت الاستثمارات خاصة الغربية.  فالاهتمام بالأوضاع الاجتماعية يؤثر دائما على الأجواء العامة ويفيد الاقتصاد.  في الولايات المتحدة اليوم، هنالك وعي متجدد لضرورة العناية الاجتماعية أي عناية المسنين والمحتاجين وأصحاب الاعاقات المتنوعة التي لم تستثمر الأموال فيهم كما يجب.  هنالك ضرورة لتقوية التواصل والمشاركة داخل المجتمعات منعا للانعزال الشخصي وما ينتج عنه من مساوئ.  في نفس الوقت هنالك عقيدة أساسية باقية وهي أن تحقيق النمو الأقوى هو واجب لأنه يساهم في تعميم الازدهار.
ثالثا:  من المعلوم أن معظم خبراء السياسات الخارجية يعتقدون أن هنالك خاسر ورابح ينتجان عنها، أي لا تقاسم في الانجازات.  خبراء الاقتصاد يفكرون عموما في الربح المشترك وبالتالي يمكن للمشاركين جميعا أن يربحوا وان يكن بنسب مختلفة.  «الحرب» الحالية بين الصين والولايات المتحدة المدعومة من الحزبين الأميركيين ستؤدي الى خسارة الجانبين وبالتالي الاقتصاد العالمي، علما أن المشاركة والتعاون يفيدان الجميع.  زياراتا وزيرتا المال والتجارة الأميركيتين الى العاصمة الصينية في 2023 كانتا لتصحيح الخلل وتعزيز التفاهم واعادة الثقة والنجاح كان جزئيا.
رابعا:  هنالك حقيقتان كبيرتان، الأولى هي أن ادارة بايدن تتبع سياسات صناعية جديدة لتحسين وضعها الاقتصادي دوليا. هنالك دعم لبعض الصناعات وتقييد لحرية بعض الصادرات منعا لانتقال التكنولوجيا المتطورة خاصة الى الصين.  هل السياسة في خدمة الاقتصاد أم العكس؟  كان الجزء الأول سائدا لفترات طويلة أما اليوم فالصراع السياسي هو الأهم وتستعمل فيه كل الأسلحة.  هنالك أيضا خوف من أن يفترق الاقتصادان الكبيران، أي نعود الى فترات الستينات مما يعيق عمليات النمو العالمية ويؤدي الى التوترين الاقتصادي والسياسي.