بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تموز 2023 12:00ص التهديد الأمني والرئاسة عالقة بين استحالتين

حجم الخط
ليست المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان ازمة سياسية حادة تحول دون انتخاب رئيس للجمهورية، كما تحول دون تشكيل حكومة فاعلة قادرة على فرض هيبة القانون وادارة شؤون الناس وتقديم مجمل الخدمات الاساسية للمواطنين، بما فيها ابسط الضرورات اليومية وصولاً الى خدمة الأمن وحفظ الاستقرار العام. وان الدليل الساطع على اتهام الدولة بالتقصير في حفظ امن مواطنيها، يتمثل بالجريمة المزدوجة التي اودت بحياة اثنين من عائلة طوق في جرود القرنة السوداء، والتي كان من الممكن ان تدفع نحو حصول فتنة بين اهالي بشري واهالي الضنية، لولا تدخل القيادات الدينية والسياسية والالحاح في دعوة الجيش والقضاء لكشف الجناة والاقتصاص منهم.
تأتي هذه الجريمة الشنعاء ضمن سلسلة من الجرائم المتنقلة بين مختلف المناطق، هذا بالاضافة الى ظواهر متكررة تؤكد على عجز الدولة واجهزتها في حماية الأمن والاستقرار وحماية املاك الدولة الخاصة في مختلف المناطق بما فيها وسط العاصمة بيروت، وبما يؤشر الى فقدان السلطة لهيبتها، والتي لن تستعيدها من خلال «هذيان» وزير الداخلية وادعائه بأن الامن ممسوك، وبأن السلطة لن تتهاون مع المجرمين. وتدعو الحكمة والتجربة الطويلة بأن نقول لمعاليه بأن الأمن فالت، وسيستمر على فلتانه طالما استمر غياب القرار السياسي، في ظل غياب رئيس للجمهورية وغياب مجلس وزراء فاعل في اتخاذ القرار لاستعادة سيادة الدولة وفرض سلطة القانون، بدءاً من تأمين الحاجات الاساسية والضرورية للجيش والقوى الامنية لاستعادة تماسكها، وبما يمكنها من الاضطلاع بمهامها الامنية على كامل الاراضي اللبنانية، مع تأمين السيطرة الكاملة على جميع الحدود اللبنانية.
في رأينا لن يكون من السهل فك الاشتباك السياسي المحتدم والذي يمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي يدفع نحو مزيد من التعقيدات التي تحول دون انتخاب رئيس بعد انعقاد اثنتي عشرة جلسة نيابية مخصصة لانتخاب الرئيس العتيد، حيث اظهرت جميع الاحزاب والكتل النيابية بأنها مستمرة في لعبة التعطيل الى حين توافر الظروف التي تحقق لها مصالحها الخاصة بالكامل.
ولا يبدو في الافق اي بصيص امل لتفكيك العقد التي تمنع انعقاد دورة انتخابية ثانية في أية جلسة مقبلة يدعو اليها الرئيس بري، حيث يتمسك طرفا الازمة بمطالبهما، فالثنائي الشيعي، وخصوصاً حزب الله يتمسك بدعواته المتكررة لعقد طاولة حوار، والتي ترى فيها الكتل المعارضة والسيادية بأنها دعوة للاستسلام لشروط الحزب، وخدمة للمصالح الايرانية، وبأنها تمثل تكراراً للسيناريو الذي اعتمد في ملء الفراغ الرئاسي السابق، والذي انتهى باستسلام قوى المعارضة لمشيئة حزب الله.
وتسود حالة من الحذر واليقظة لدى بعض الاحزاب المعارضة وخصوصاً المسيحية من ان طاولة الحوار قد تذهب الى أبعد من تأييد مرشح «يدعمه الثنائي الشيعي وترتاح اليه المقاومة»، للبحث جدياً في عمق ازمة النظام، مع امكانية تعديل صيغة الطائف التي تقوم على قاعدة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ويبدو جلياً بأن الهواجس المتولدة من امكانية استبدال صيغة المناصفة بصيغة المثالثة او ما شابه ذلك قد دفعت فئات مسيحية الى المطالبة باعتماد «الفيدرالية» كصيغة للحكم بدل الدولة البسيطة الموحدة. ويؤشر الدفع الاعلامي القوي لاعتماد صيغة الفيدرالية، بأنه بات الوسيلة القوية والفضلى لتدعيم موقف وحقوق المسيحيين في اي حوار يمكن ان يجري بحثاً عن مخارج لأزمة النظام القائمة، والتي باتت تتجدد مع نهاية كل عهد.
ويرتفع منسوب الهواجس المسيحية مع بداية المرحلة الثانية من المبادرة الفرنسية، والتي بدأت مع زيارة الموفد الرئاسي جان ايف لودريان واجتماعه مع مختلف القيادات والقوى اللبنانية، والتي قد تنتهي بالدعوة الى طاولة حوار، وبالنتيجة اجبار القوى المسيحية على الرضوخ لدعوات حزب الله الملحة للحوار، والتي ستشكل مناسبة لطرح تعديل صيغة الطائف، والدفع جدياً لاعتماد جملة تعديلات تتعدى من بعيد تلك التعديلات التي اقرها مؤتمر الدوحة عام 2008، الى البحث جدياً في الغاء المواد الدستورية التي تنص على المشاركة والمناصفة في السلطة بين المسلمين والمسيحيين.
يدرك الثنائي الشيعي بأن موازين القوى الراهنة في المجلس النيابي، وبأن تمسك القوى النيابية المعارضة باستعادة السيادة وتحييد او نزع سلاح حزب الله لن يسمح بانتخاب مرشحه سليمان فرنجية استناداً الى تطبيق مواد الدستور، وهذا ما يدفع بهذا الثنائي «الشيعي» وحلفائه الى الانسحاب، وتعطيل النصاب، وهم مستعدون للاستمرار في هذه السلوكية لأشهر ولسنوات.
هذا ما اكدته مجريات جميع الجلسات النيابية التي عقدت حتى الآن، في ابعادها النيابية الداخلية، اما في البعدين الاقليمي والدولي فإن الامور تبدو اكثر تعقيداً، وخصوصاً ما يعود منها لازمة العلاقات القائمة بين ايران والولايات المتحدة، وخصوصاً في ظل التعثر الذي تواجهه المباحثات حول احياء الاتفاقية الخاصة بالنووي الايراني. ويشكل الحذر الاميركي في الدخول بصورة مباشرة على الازمة الرئاسية في لبنان افضل دليل على ادراك اميركا للدور المعطّل الذي تقوم به ايران، من خلال استعمال فائض القوة التي يملكها حليفها حزب الله على الارض.
ان افضل مؤشر على وجود عقدة الدور الايراني المعطّل لانتخاب رئيس للبنان. يتمثل بحالتي الحذر والشلل الذي تواجهه لجنة باريس الخماسية والمؤلفة من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، والتي تدرك بوضوح عدم قدرتها على مواجهة لعبة التعطيل الامني للمسار السياسي اللبناني من خلال عمل عسكري يقوم به حزب الله في الداخل او عبر الحدود مع اسرائيل.
لا يمكن في هذا السياق اغفال تمسك حزب الله بسلاحه وتقوية الدويلة التي اقامها على حساب الدولة الشرعية، والذي يتكرس من خلال الحفاظ على الفراغ في سدة الرئاسة، واستمرار تحلل مؤسسات الدولة، والتي لم يبقَ منها سوى الجيش وبقية الاجهزة الامنية، والتي تعيش الآن في شذر المساعدات المالية الخارجية التي تأتيها من الولايات المتحدة ودولة قطر. وسيؤدي انقطاعها بفعل اطالة فترة الفراغ، حتماً الى تكفك كل المؤسسات الامنية، وسيصب ذلك في صالح هيمنة حزب الله على الدولة وعلى كامل الاراضي اللبنانية، وسيفضي حتماً الى تشريع سلاح الحزب، على غرار ما حدث مع الحشد الشعبي في العراق.
في الخلاصة هناك استحالة مطلقة لامكانية حصول توافق داخلي لملء الفراغ الرئاسي، في الوقت الذي يبقى فيه الحل الخارجي رهناً بحصول توافق اميركي - ايراني حول الموضوع النووي. والتي ما زالت كل المعلومات تؤكد استحالة تحقيقه في المدن المنظور، مع استمرار تناقض الرؤية والاهداف بين واشنطن وطهران. وهكذا سيبقى لبنان رهينة هاتين الاستحالتين لفترة طويلة.