بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 أيلول 2023 12:27ص السياسات الاقتصادية والثقة

حجم الخط
من الصعب في الاقتصاد المتغير اعتماد سياسات جامدة. المبادئ الاقتصادية، وإن تكن مهمة، لا يمكن التمسك بها في كل الأوقات والظروف كي لا تضر النتائج التطبيقية المواطن والشركة. بين المبادئ الأساسية خياران، اعتماد سياسات تسمح بتدخل القطاع العام في الاقتصاد، أو على العكس ترك الاقتصاد يدور من تلقاء نفسه والتفرج عليه. نتذكر هنا ما قاله الرئيس ريغان سنة 1980 قبل بدء عهده الأول «لا يمكن للقطاع العام أن يقدم حلولا للمواطن، فهو المشكلة وليس الحل». في رأي الرئيس الأميركي السابق، يجب تقليص حجم ودور القطاع العام في الاقتصاد اذ أنه مصدر المشاكل. في كل حال، من الصعب الفصل كليا بين المبدأين المذكورين اذ تضطر كل الحكومات الى تعديل مناهجها الاقتصادية واعتماد الحلول المناسبة في ظروف متغيرة. المبادئ مهمة لكن الحلول بالنسبة للمواطن تبقى أهم بكثير. حتى الرئيس ريغان اضطر للتدخل مرارا في الاقتصاد لانقاذ شركات كبيرة ولمواجهة المعطيات السلبية.
هنالك موجات سياسية تريد الاطاحة بالعولمة، اذ اتهم الانفتاح الكبير بالتسبب بالمشاكل العالمية المعروفة كالتلوث والتغير المناخي والديون والهجرة والنزوح والفقر. من المستحيل الغاء العولمة كليا والعودة الى زمن الانغلاق الاقتصادي المضر، اذ لا مصلحة ولا قدرة للعالم على ذلك. موضوعيا لم يكن ممكنا أن تنتعش أسيا والصين تحديدا من دون عولمة متقدمة. المشكلة الدولية الحالية ليست مشكلة عولمة، وانما مشكلة ثقة بين الأطراف. لا يمكن بناء اقتصادات مشتركة من دون ثقة متبادلة. لم يكن لأوروبا أن تبني وحدتها من دون ثقة متعددة الاتجاهات والمواضيع. عندما فقدت الثقة البريطانية بالوحدة الأوروبية، خرجت بريطانيا منها. هنا يكمن دور كبير للمؤسسات الدولية بدأ من الأمم المتحدة كي تجمع وتسهل التواصل وتسعى لفك النزاعات قبل أن تكبر. المشكلة ليست في العولمة وانما في مسيرة العولمة التي ضربت ثقة الأطراف فيما بينهم.
تواجه أميركا اليوم الصين ليس لأنها ليبيرالية ولأن الصين تعتمد النظام الشيوعي، وانما بسبب خوف الجبارين من بعضهما البعض. في العقود الماضية، كانت الولايات المتحدة تساير الصين الى أقصى الحدود تجنبا لانحيازها الى الاتحاد السوفياتي وثم الى روسيا، ولأنها كانت تعتقد أن الاعتماد عليها في الاقتصاد يفيدها كما يفيد الاقتصاد الدولي. أما الآن، هنالك تغيير كبير في السياسة الأميركية التي تضع الصين في خانة «العدو» الاقتصادي الأول الذي يجب «اضعافه». تنظر الولايات المتحدة اليوم الى الصين من ناحية حماية أمنها الوطني وليس كحليف أو متعاون اقتصادي كالسابق. كانت التجارة والمال والتكنولوجيا الركائز التي بنيت عليها العلاقات الثنائية. أما اليوم فلم تعد كذلك، وهنالك توتر في العلاقات التجارية خاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا المتطورة كالذكاء الاصطناعي. أظهر اجتماع البريكس الأخير في جوهانسبرغ عمق الخلافات بين الجبارين.
تقوم الولايات المتحدة مثلا بتقييد حرية الشركات الأميركية في الاستثمار في الصين في بعض قطاعات التكنولوجيا خوفا من استعمالها لتقوية الجيش الصيني. يقول صندوق النقد الدولي أن المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن تكلف الاقتصاد العالمي نقطتي نمو سنويا مع الوقت، وهذه تكلفة كبيرة لاقتصاد دولي متعثر أصلا. يقول المصرف المركزي الأوروبي أن المواجهة المذكورة ستحدث المزيد من التضخم بسبب تعثر سلاسل الامداد. تأثر العرض سلبا يؤدي الى ارتفاع مؤشر الأسعار. يقول الرئيس بايدن أنه لا يهدف الى عرقلة النمو الاقتصادي الصيني، بل يخشى من أن تنعكس القوة الصينية سلبا على مسيرة الاقتصاد العالمي أو بطريقة أخرى يخشى من سيطرة الصين على الاقتصاد الدولي.
في الصين نفسها، تقوى المركزية السياسية الهادفة الى تعزيز سلطة الرئيس «شي» وليس الى تطوير الاقتصاد الذي يعاني كثيرا بعد فترة الكورونا وتغيير سياسة الولد الواحد كما من المشاكل الاجتماعية المتنوعة. مقابل الصراع الأميركي الصيني، تقف مصالح أميركية واضحة مرتبطة بحاجة الولايات المتحدة الى الصين في موضوعي المناخ والتنمية الاقتصادية العالمية حيث ما زالت مساهمة الصين المالية والتقنية والبشرية خجولة. ضمن هذه المواجهة، تسعى الولايات المتحدة الى تطوير علاقاتها أكثر باقتصادات أسيوية قوية كاليابان وكوريا الجنوبية مما يفسر سبب اجتماع القيادات الثلاث مؤخرا في أميركا. كوريا الجنوبية تدهش العالم بقوتها الاقتصادية، حيث شركاتها المهمة Chaebols تكبر وتنتج سلعا فاعلة. ارتفعت القيمة السوقية للشركات الكورية العشرة الكبرى من 133 مليار دولار في سنة 2000 الى 291 مليار دولار في 2010 و 603 مليار دولار في 2020. أما اليابان فمسيرتها الاقتصادية مدهشة ومعروفة.
الشركات الكورية عائلية وتبقى مضرب مثل في النجاح. استطاعت اعتماد الخبرات الكبيرة الكفوءة لمساعدة أفراد العائلة في ادارة الشركات. للشركات العائلية مزايا مهمة اذ تتخذ فيها القرارات بسرعة معتمدة عموما على استراتيجيات طويلة الأمد تنتقل عبر الأجيال. لكن في نفس الوقت حسن استعمال الخبرات الخارجية في التطلعات المهمة يفيد جدا، وهنا يكمن الذكاء العائلي الكوري الذي جمع بنجاح الملكية العائلية والخبرات المتخصصة. أما من ناحية الشفافية، تطورت تقنيات الاشراف الداخلي كما الخارجي، أي لم تعد هذه الشركات مقفلة أمام الرقابة المهنية الخارجية أي رقابة القطاع العام. هنالك دروس كورية جنوبية مفيدة ليس فقط للشركات الأميركية وانما لشركات العالم أجمع.
أوروبا تتغير كل يوم خصوصا منذ بدء الحرب الأوكرانية. تتغير العقيدة الاقتصادية الليبيرالية الأوروبية لتحل مكانها سياسة الدعم والتدخل لتخفيف أوجاع المواطنين. هنالك دعم نقدي مباشر وتخفيف ضرائبي وسقوف وضعت لأسعار الطاقة لم تكن لتحصل لولا الحاجة المعيشية. أوروبا غيرت عقيدتها التطبيقية لتلبية حاجات المواطنين. هنالك تقنين انفاقي تجاه الحاجات غير الضرورية وقفا للهدر. المبادئ مهمة، لكن معالجة الواقع وايجاد الحلول بمرونة ومنطق يبقيان أهم.