بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 تموز 2023 12:27ص الطريق للإصلاح واستعادة الديمقراطية

حجم الخط
في لقائه مع مجلس نقابة المحررين، ورداً على سؤال حول مستقبل «الطائف» في ظل وجود رغبة لدى البعض بالانقلاب عليه، اكد الرئيس نبيه بري رفضه المطلق لأي مسّ بالاتفاق بقوله: «لقد عشنا ومتنا حتى انجزنا هذ الاتفاق، واقول لمن يريد تغييره: فليقعد عاقل احسن له». واضاف بأن دعوات البعض لتغيير النظام تضع لبنان في مهب مخاطر لا تحمد عقباها، وتساءل بري: هل طبقنا «الطائف» كي ندعو الى تغييره؟
جاء كلام الرئيس بري المترافق مع تحذيرات من دعوات بعض المجموعات من النخب المسيحية الناشطة سياسياً للاطاحة بدستور الطائف واجراء تغييرات جذرية في بنية النظام السياسي، من خلال اعتماد نظام فيدرالي، وبالتالي تقسيم لبنان الى مقاطعات طائفية، تطبق الحكم الذاتي، مع الحفاظ مركزياً على وحدة المؤسسات في الشؤون الخارجية والدفاعية والنقدية.
كان الملفت الحماس الذي ابدته احدى وسائل الاعلام المرئي الكبرى بهذا الطرح، من خلال اعطاء حلقتين من ابرز برامجها السياسية لمجموعة من هؤلاء الداعين للفيدرالية، لتقديم شرح تفصيلي لمشروعهم، ويأتي هذا الامر في التوقيت الخاطئ جداً، حيث تواجه الدولة حالة من الانهيار شبه الكامل في مؤسساتها الدستورية والادارية وفي وقت ينقسم فيه لبنان شعبياً وسياسياً وعامودياً، وبشكل يمنع انتخاب رئيس للجمهورية منذ اكثر من ثمانية اشهر، في وقت لا يبدو فيه اي شعاع امل للخروج من هذا النفق المظلم في المستقبل المنظور. ولا يمكن لأحد ان ينكر اليوم بأن لبنان يواجه ازمة دستورية عميقة وبأن الخلافات السياسية واحتدام المصالح الخاصة بين الاحزاب والكتل النيابية في البرلمان، وفي حال استمرارها دون حل لفترة طويلة ستهدد المصير الوطني، من خلال افتعال احداث امنية او عبر الحدود مع اسرائيل، تؤدي حتماً الى تهديد وجود لبنان الوطن.
ولا يمكن لأحد تجاهل اسباب الازمة الراهنة التي نواجهها، والتي تتلخص بأنه بعد ثلاثة عقود على اعتماد دستور «الطائف» كوسيلة لانهاء حالة الحرب الاهلية التي استمرت من عام 1975 الى عام 1990، فقد فشلت المنظومة السياسية في تحقيق المصالحة الوطنية المطلوبة، كما فشلت في تطبيق بنود «الطائف» الاصلاحية، وابرزها انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وإنشاء مجلس للشيوخ، وتطبيق اللامركزية الادارية الموسعة، تحقيقاً لتعميم الانماء المتوازن في مختلف المناطق.
لم تستطع اثنتا عشرة جلسة نيابية خصصت لانتخاب رئيس للجمهورية في احداث اي خرق للحواجز والعقبات التي وضعتها القوى السياسية، والمنقسمة بين معسكري الممانعة، والمعارضة التي تطالب باستعادة سيادة الدولة كاملة، وغير منقوصة، في طريق التوافق على آلية لإتمام عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي ظل الاقتناع بعدم قدرة المعسكرين على الحوار للتوافق على مخرج، فقد بات الامل الوحيد بتوافر مبادرة خارجية ترعى الحوار سواء كانت من مجموعة باريس الخماسية او المبادرة الفرنسية التي اطلقها الرئيس ماكرون، بعد تكليفه لوزير الخارجية الاسبق جان ايف لودريان بالبحث عن مخارج عملية عن الازمة.
والمؤسف لا بل الخطير في الامر بأن مختلف القوى السياسية والكتل النيابية تلتزم الصمت والسكينة، وعدم القيام بأية جهود سياسية للبحث عن مرشح جديد للرئاسة يمكن التوافق على انتخابه، مع التعبير عن املها في ان ينجح الموفد الرئاسي الفرنسي في اجراء معجزة «حوارية» تؤدي الى تسمية مرشح يحظى بتأييد الاكثرية النيابية.
مع ضرورة الاعتراف بأولوية واهمية انتخاب رئيس للجمورية الا ان هذا الامر سيشكل الخطوة الاولى على درب طويل وشاق من اجل اصلاح النظام اللبناني. وسد الطريق حاضراً ومستقبلاً على جميع المصطادين في الماء العكر، من دعاة الفيدرالية، والتي تخفي وراءها مسعى التقسيم على اسس طائفية ومذهبية، والتي ستذهب بلبنان الصيغة المشتركة والرسالة الى غير رجعة. ولكن وانطلاقاً من ضرورة وضع خارطة طريق طويلة ومعقدة لعملية اصلاحية واسعة من اجل وقف عملية التحلل في جميع مؤسسات الدولة. هناك ضرورة ملحة لوضع خارطة طريق اصلاحية تأخذ بعين الاعتبار البُعد الدستوري للازمة، حيث تبرز الحاجة لاجراء بعض التعديلات على بعض مواد دستور الطائف، وتطبيق ما تبقى من مندرجات الاتفاق الاساسي، والتي لم يجرِ مقاربتها جدياً حتى الآن، وتشكل هذه المسألة جوهر الاصلاح السياسي المطلوب.
اما الاصلاحات الكبرى والملحة الاخرى فهي تتعلق بالازمة الاقتصادية والمالية والمعيشية والتي نشأت عن ضعف الدولة وتهاوي مؤسساتها وعن الفساد، وانزلاق الصيغة السياسية، دون رادع، لخدمة مصالحها وسرقة المال العام. ويمكن ان يشكل هذا المطلب الاصلاحي توجهاً لوضع خطة معقدة، مع ضرورة تأمين مساعدة ودعم أشقاء لبنان، وخصوصاً الدول الخليجية، والمؤسسات المالية الدولية، والدول الغربية الصديقة للبنان، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، وذلك كخطوة لاستعادة الثقة بلبنان، واحياء قطاعه المصرفي، الذي بات يشعر من انعدام الثقة الداخلية والخارجية، وهو بحاجة لتشريعات جديدة تؤمن اعادة هيكلته وانتظام عمله المصرفي وفق القواعد الدولية.
في المجال الاصلاحي الدستوري لا بد من لفت النظر الى وجود دراستين قيِّمتين للتعديلات المطلوبة في مواد دستور الطائف: الاولى وضعها لقاء الجمهورية برئاسة الرئيس ميشال سليمان قبل سنوات، والثانية وضعها الدكتور عصام سليمان رئيس المجلس الدستوري السابق حول «عقلنة مواد الدستور» وسبق ان نُشرت في صحيفة النهار.
وهنا لا بدّ من التحذير من البحث عن اصلاحات نظرية وتجميلية بمواد الدستور، لأن المطلوب أن تتصدى لعمق الأزمة التي نواجهها الآن والتي نتجت عن غياب مفهوم الديمقراطية الحقيقية في النصوص والممارسة للسلطة، فالدستور الراهن ينص على أن «الشعب هو مصدر السلطات» والتي بقيت خلال ثلاثة عقود شعاراً فارغاً من أي مضمون، لقد استمر المجلس النيابي والسلطة التنفيذية في تجاهل ارادة الشعب، والقفز فوق مصالحه طيلة العقود الماضية، وهذا ما أكدته القدرات التمثيلية لدى الشعب للتأثير في إدارة البلاد أو في انتخاب النواب أو محاسبة الوزراء أو الحد من الفساد في الادارات العامة.
عمدت الطبقة السياسية تكريساً لتغييب الارادة الشعبية إلى سنّ قانون الانتخاب الراهن، والذي يخدم مصالحها، وخصوصاً مصلحة حزب الله والثنائي الشيعي وحلفائه، والذي تسبب خلال انتخاب برلمانيين بترك أبشع تأثيراته السلبية، ومما زاد من نتائجه السيئة عدم وجود آلية وهيئة مستقلة وفاعلة تشرف على العمليات الانتخابية، بالاضافة إلى الحفاظ على كل وسائل الرشوة والزبائنية والضغط على الناخبيين لافساد النتائج.
فالديمقراطية في لبنان بقيت ضحية فساد الطبقة السياسية وقدراتها غير المحدودة لإفساد العملية الانتخابية، حيث نجحت في منع المواطنين من التعبير عن خياراتهم بحرية سواء لجهة تحديد المطالب السياسية والاقتصادية أو لجهة اختيار المرشحين الصالحين لتمثيلهم.
وترافقت عملية الفساد والافساد السياسي للمواطنين من قبل الطغمة السياسية مع تغييب شبه كامل للسلطة القضائية، والتي أظهرت عجزها عن تأمين العدالة للمواطنين، وعن شلل كامل في قدراتها على ادارة شؤون القضاة، أما العجز الكبير والخطير فتمثل في عجز القضاء عن محاسبة السياسيين واتباعهم وتحميلهم مسؤولية اخطائهم وفسادهم.
لا أمل بأية عملية اصلاحية تُخرج لبنان فعلياً من أزمة النظام التي تخبط بها إذا لم تترافق مع وعي المواطنين وتمسكهم بضرورة اعتماد مبدأ الشفافية من قبل مختلف القوى السياسية، وضرورات خضوع الجميع لمبدأ المساءلة، بعد سن قانون يلغي جميع الحصانات التي تستعمل لهروب الفاسدين عن المحاسبة والعقاب.