بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تموز 2023 12:15ص النقد الواحد والتضخُّم

حجم الخط
هنالك أكثر من 100 نقد يتم تداوله في دول العالم.  هل هذا صحي؟  هل هذا منطقي؟  هل يساعد على تحسين التبادل التجاري والمالي؟  هل يعزز حظوظ النمو الاقتصادي بل التنمية الاجتماعية؟ تعقد مئات المؤتمرات الدولية سنويا ويتم تجاهل هذا الموضوع المهم ربما بسبب من يربط النقد بالسيادة وهذا وإن يكن مفهوما، فهو غير منطقي.  واذا كان من المستحيل الوصول الى نقد واحد عالميا، فلما لا تحاول الدول والمؤسسات النقدية الاقليمية والعالمية تخفيض العدد الموجود الى خمسة مثلا؟ لا شك أن هنالك تقصيرا في هذا المجال ربما لأن المشاكل الاقتصادية الأخرى تعتبر ذات أهمية أكبر أو أن وراءها مصالح لا يمكن ازاحتها أو مواجهتها بسهولة.
هنالك اقتصادي كبير سبق عصره في هذا المجال وهو الأميركي «شارلز كندلبرغر»  الذي أصدر أكثر من 30 كتاباً معظمهم معروف في الأوساط الأكاديمية كما في مجتمع الأعمال.  قال كندلبرغر أنه يجب الوصول الى نقد واحد عالمي لأن في ذلك تشجيعا للتجارة، للاستثمارات كما للازدهار الاقتصادي العام. نقد واحد يسهل كل شيء ويخفف من تكلفة وعناء التحويل النقدي كما يسهل استعمال التقنيات المتوافرة لمواجهة التضخم. لا عجب في أن يكون هذا النقد الواحد في رأي كندلبرغر هو الدولار الأميركي.  واذا كان واجبا وجود عملات أخرى لأسباب سياسية أو وطنية أو تاريخية أو غيرها، فلتربط في رأيه بسعر صرف ثابت تجاه الدولار مما يعيدنا عمليا الى نقد واحد عالمي. لا ننسى هنا ما قاله وزير المالية الأميركي السابق «جون كونالي» أن الدولار هو نقدنا لكنه مشكلتكم.
نظرية كندلبرغر لم تعرف كغيرها أي مثلا كنظريات «فريدمان» أو «كينز» لكنها لا تقل أهمية. فهو لا يشاطر فريدمان الذي طالب بأسعار صرف حرة تقوم المصارف المركزية بتحريكها تبعا للمصالح الوطنية كما يجري اليوم بين المصارف المركزية الأساسية. فهو لا يشاطر كينز الذي قال أن السياسة المالية الوطنية وخاصة الضرائبية تتعطل اذا هدفت السياسة النقدية الى ربط النقد الوطني بالدولار بسعر ثابت. لذا اعتبر كندلبرغر أن قرار فك ربط الدولار بالذهب بسعر ثابت أي انهاء اتفاقية «بريتون وودز» الذي اتخذه الرئيس نيكسون سنة 1971 كان جريمة. اعتقد كندلبرغر أن العودة الى تقلبات أسعار الصرف سيقلل استثمارات الدول الغنية في الفقيرة بسبب ارتفاع المخاطر والاضطرابات المالية. ما يجري اليوم عمليا يشير الى أن كندلبرغر كان على حق.
بالرغم من كل المخاطر التي تواجه الاقتصاد الأميركي ونقده أي الدولار، لا نرى صعودا للنقد الصيني على المستوى العالمي. دور اليوان الصيني لم يظهر بعد بقوة في الاحصائيات العالمية، اذ ان أرقام استعماله ما زالت خجولة. هنالك دلائل تشير الى أن حتى الدول الآسيوية لا ترغب في اعطاء هذه الأهمية للنقد الصيني بل تريد هي تطوير عملاتها على الساحة الدولية.  ابقاء الفوائد منخفضة لفترات طويلة سابقة ساهمت في ابقاء الادخار منخفضا، وبالتالي شكل السبب الأساسي للتضخم الحالي.
ان بقاء الاستثمارات منخفضة نسبيا لم يكن بسبب ضعف الادخار فقط بل بسبب العوامل الديموغرافية والتكنولوجية. في الأولى انخفاض نسبة المواطنين العاملين من المجموع ساهم كثيرا، كما أن عدم استبدال التكنولوجيا القديمة بالجديدة بسرعة ساهم في بقاء الخيارات الاستثمارية محدودة.  لذا لم ترتفع الانتاجية العامة دوليا بسرعة منذ سنة 2000 مما أثر أيضا على الخيارات الاستثمارية.قدوم الكورونا لاحقا فرض الانكفاء وأثر كثيرا على عمليات الانتاج والعرض وبالتالي على الأسعار صعودا.  من السلع الأساسية التي تأثر عرضها مثلاً حليب الأطفال وسلع الوقاية الصحية وبعض القطع الضرورية في صناعة السيارات وغيرها.  لأن التضخم لا ينبع فقط من الطلب الذي تؤثر عليه الفوائد كثيرا، من المنطق وكما يقول الاقتصادي «جوزيف ستيغليتز» أن يتم رفع الفوائد مستقبلا ببطء أو الحفاظ على المستويات الحالية بانتظار تطورات جديدة مضيئة. اذا كان هنالك استحالة عملية للوصول الى نقد واحد عالمي أو أقله الى عدد قليل، لا بد من مواجهة المشاكل الموجودة التي من الممكن أن تتفاقم.
أولا: التضخم الذي يعم العالم أجمع منذ الحرب الأوكرانية أي ارتفعت مؤشرات الأسعار ليس فقط بسبب الغذاء والنفط بل أيضا بسبب العقارات، أي توجه الأسر لشراء شقق كبيرة لتسهيل العمل من المنزل منذ الكورونا. هنالك رفض واضح من قبل الموظفين للعودة الى السابق لأن البقاء في المنزل مفيد للانتاجية ويخفف مخاطر النقل. رفع الفوائد يفيد لكن الركود وارد نتيجة تأثر الاستثمارات سلبا. تنبه المؤسسات الدولية الى مأزق الخيار بين التضخم والركود، وهذا محير لجميع ادارات الدول.
مشكلة التضخم الكبيرة هي احتمال تأثير مؤشرات الأسعار على توقعات المواطنين مما يجعل مهمة المصارف المركزية أصعب بكثير. هذا يفسر الى حد بعيد سرعة زيادة الفوائد من قبل المصرف المركزي الأميركي وثم من قبل المصارف الأخرى.  سياسة توازن المخاطر تبقى صعبة حتى في ظروف عادية فكيف تكون اليوم مع الوضع الأوكراني والمواجهة الأميركية الصينية والأوضاع الاجتماعية المقلقة في أوروبا وغيرها. لحسن الحظ والوعي، تقوم دول المنطقة بتصحيح علاقاتها الثنائية التي توترت سابقا الى حدود بعيدة.
ثانيا:  تتأثر الأسواق المالية عموما سلبا بسياسات المصرف المركزي الضاربة للتضخم بسبب ضعف الاستثمارات ولجوء المواطنين الى الأصول القليلة المخاطر كالذهب والسندات. من غير المتوقع سقوط الأسواق كما حصل في 19\10\1987 أي في الإثنين الأسود بسبب القوانين والاجراءات الجديدة كما التكنولوجيا الالكترونية التي لم تكن موجودة سابقا.  لكن في نفس الوقت تتأثر ايجابا بعض الأصول المشفرة والرقمية كالبيتكوين لمن يرغب بالمخاطر المرتفعة التي تعطي في نفس الوقت عائدا فريدا مرتفعا.