بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 كانون الثاني 2024 12:00ص النقد والبديل الرقمي

حجم الخط
هنالك دول عدة تتراجع نقديا واقتصاديا بينها لبنان حيث أصبح النقد الوسيلة الأكثر استعمالا للتبادل السلعي والخدماتي بعد سنوات طويلة من التقدم التقني والقانوني في الأسواق المالية.  تحول لبنان من اقتصاد يحاول تطوير نفسه الى آخر يسهل جذب أموال نقدية من دول نامية وناشئة تحاول الهرب من الرقابة الدولية الصارمة واللجوء الى الربوع اللبنانية.  هنالك أموال كبيرة جدا تحاول خرق القوانين الدولية لتبيض نفسها ووجوه أصحابها ودخول الاقتصادات القليلة الرقابة والشفافية.  قدوم أموال نقدية الى لبنان من هذا النوع يضع لبنان في مصاف الدول «المشكوك بصدقيتها» ويمكن أن يكلفنا الكثير كشعب ودولة.  لهذه الشكوك تكلفة كعدم عودة الرساميل «النظيفة» وربما خروج استثمارات كبيرة الى دول «آمنة». للأسف لا يمضي أسبوع ولا تعود شكوك قديمة جديدة الى الصفحات الأولى في الاعلام العالمي.
للنقد فوائد عدة منها سهولة الاستعمال والحفاظ على سرية الهوية الشخصية كما له مساوئ كبرى أهمها ما يرتبط بالفساد وتمويل الممنوعات والتهرب الضرائبي مما يسبب قلقا واضحا لدى السلطات الحكومية العالمية. بسبب الأوضاع السياسية والأمنية العالمية هنالك رغبة في التخلي تدريجيا عن النقد واستعمال وسائل الدفع الأخرى، أهمها النقد الرقمي والمشفر وكل ما يجعل أي تبادل يسجل لدى السلطات الرسمية. هنالك أكثر من 100 دولة تحاول استبدال النقد العادي بالرقمي لأسباب سياسية وأمنية. المهم أن تقبل المصارف المركزية بالفكرة وتبادر الى اصدار نقدها الرقمي.
ما هي منافع هذا الانتقال من النقد الورقي الى الرقمي.  وجود نقد رقمي رسمي يسهل التبادل ويقوي شفافيته.  تخف تكلفة التبادل وترتفع سلامته تجاه الفرقاء كما السلطات الرسمية.  وجود النقد الرقمي يسهل ادخال المواطنين حتى البعيدين عن المدن الى عمليات التبادل الداخلية والخارجية. لا شك أن العلاقات النقدية بين الدول وعبر الحدود ستصبح أسهل.  لكن من مساوئ هذا الانتقال اضعاف الوجود المصرفي الداخلي وربما اخراج القطاع من الاقتصاد. عندما يتم نقل أموال عبر المصرف يتم تسجيل ذلك بحيث يتأكد المشاركون من أن الأموال موجودة وأن الدفع حصل فعلا.  المصرف هو الوسيط، بينما في الأسواق المشفرة لا يوجد وسيط يمكن أن يؤكد حصول عملية تبادل نقدي.  يتم التبادل فيها عبر سلسلة من الحواسب موجودة في أماكن عدة تقوم بالعمليات المطلوبة.  في نفس الوقت يسهل النقد المشفر العلاقات بين المصارف المركزية وبالتالي تزدهر عمليات التبادل الدولية.  تمنع المصارف المركزية عمليا المصارف التجارية من وضع الأصول الرقمية والمشفرة في ميزانياتها لأنها ترفع مخاطرها وتخفف من فرص اعادة الودائع «الآمنة» الى أصحابها.
هنالك وسائل عدة لوضع ضوابط على هذا التبادل بحيث تكون السرية فيه موجودة كما تتحسن سلامته الى حدود مرتفعة.بدأ استعمال النقد المشفر في 2009 وامتد بسرعة في العدد والقيمة وسرعة التبادل.  هنالك حوالي 15 ألف أصل مشفر مستعمل عالميا.  من أهم مساوئ هذا الانتقال اخراج المصارف المركزية من سيطرتها على الأسواق النقدية مما يعني غياب مراقب فعال كما يحصل في الأسواق التقليدية.  لذا المطلوب تطوير رقابة التبادل على النقد الرقمي بحيث ترتفع الثقة وتتحسن السلامة.
مقابل سهولة التبادل عبر النقد الرقمي هنالك خطورة تقلباته التي يمكن أن تنزف المشاركين أي ادخاراتهم وأرباح الشركات وبالتالي الافلاس.  كما يمكن أن يحصل العكس أي الربح الكبير والسريع كحال أسواق الأصول الخطرة.  الدخول في الأسواق الرقمية والمشفرة يشبه من يريد تبديل محرك الطائرة في الفضاء، وهذا يمكن أن يحصل لكن امكانية النجاح متدنية.  مع الوقت سترتفع فعالية وسرعة وسلامة التبادل الرقمي والمشفر لكن هذا يتطلب استثمارات في التكنولوجيا المعتمدة كما تحديث القوانين الراعية.
ماذا يحصل اليوم ضمن الأوضاع الاقتصادية العالمية الخطرة والمتقلبة؟  ترفع المصارف المركزية الفوائد لمحاربة التضخم ويتحول المستثمرون الى الأصول الأقل خطورة كالذهب، وبالتالي تنخفض أسعار الأصول المشفرة.  لذا لا يمكن اعتبار «البيتكوين» ملاذا آمنا خلال فترات التضخم التي نعيش فيها. لا ننكر أن الاستثمار في البيتكوين وغيرها من الأصول المشفرة ارتفع خلال وباء الكورونا لأن المستثمرين رأوا فيها منفذا آمنا بعد فترات طويلة من الانفلاش النقدي التضخمي.  كما أن عرض البيتكوين محدود ولا يمكن أن يتعدى 21 مليون وحدة بالاضافة الى أن لا سلطة عليه من أي حكومة أو مصرف مركزي.  ارتفاع الفساد وسرقة المواطن وضعف الرقابة عالميا، جميعها جعلت المواطن يفقد الثقة في النظام المصرفي الرسمي ويتحول الى البيتكوين كنقد مشفر حر يخضع لتكنولوجيا متطورة سليمة.  دولة السلفادور اعتمدت البيتكوين كنقد رسمي كما الدولار الأميركي، لكن حقيقة لم ينجح البيتكوين بعد كنقد لأن سعره يتقلب كثيرا وبالتالي ينظر اليه أكثر كأداة استثمارية منه كنقد.
يعتقد صندوق النقد أن الفوائد ستعود الى مستواها المنخفض حالما تنجح محاربة التضخم.  هنالك أسباب انسانية تصب في صالح الاستقرار، منها ارتفاع نسبة المسنين في المجتمعات التي تتجنب المخاطر. انخفاض نسبة تحسن انتاجية عوامل الانتاج يصب أيضا في صالح السلامة المالية والاقتصادية. عندما يستقر الاقتصاد الدولي، يمكن عندها للمصارف المركزية أن تدخل النقد المشفر رسميا وتلغي النقد الورقي العادي. تصبح عندها السياسة النقدية الجديدة أسهل بكثير أي تحت السيطرة الكلية للمصارف المركزية.  لن يتم هذا بسرعة اذ على المواطن أن يعتاد فكريا على هذا التغيير.
أخيرا يفضل المصرف المركزي الأميركي الابقاء على الدولار النقدي وادخال الرقمي والمشفر معه وليس استبداله بهما.  ربما يكون هذا الحل العالمي المنطقي الذي يراعي ظروف الجميع.  اعتماد الحل المزدوج يؤدي الى تسهيل التحصيل الضرائبي ومحاربة كل أشكال التهرب المالي.  اعتماد الحل الأميركي يبقى المصارف سليمة لكن مع ربحية متواضعة.