بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 شباط 2023 12:20ص صمود روسيا مفاجئ

حجم الخط
لماذا لم تنجح العقوبات الغربية على روسيا؟ طبقت عليها أشد العقوبات بعد هجومها على أوكرانيا، وكان يعتقد أنها ستُسقط الاقتصاد الروسي بل ستكون العقوبات دروسا قاسية للدول التي تحاول السير عكس المطلوب غربيا أو أميركيا تحديدا. توقع الرئيس بايدن أن تشعر روسيا بالألم وأن نتائج العقوبات ستكون شديدة الخطورة كما لم يحصل سابقا. لا شك أن أوروبا تعاونت مع الولايات المتحدة في وضع أقسى العقوبات الجديدة والكاملة وأيضا لم يعطِ التعاون النتائج المتوخاة. السيطرة الغربية والأميركية تحديدا على النظام المالي الدولي لم تعد كما كانت.
حتما شعرت روسيا بالعقوبات، لكنها استطاعت انقاذ نفسها وتخفيف الوجع عن شعبها. ها هي بعد سنة تكمل الحرب على أوكرانيا دون أي تعب ظاهر بل دون معارضة داخلية منظمة. هنالك مجموعة «فاغنر» التي تلعب دورا كبيرا في الحرب وتم تشكيلها للقيام بالعمليات التي لا يرغب الجيش النظامي بها. من ناحية أخرى يحاول الرئيس الأوكراني حشد التأييد الدولي لجيشه ومقاتليه عبر زيارات مدروسة الى الدول الأوروبية الأساسية. لم ينجح حتى الآن في الحصول على ما يريد من أسلحة متطورة لمواجهة الجيش الروسي. الغرب طبعا حذر من نقل الحرب الى مستويات أعلى،أي أن تصبح علنا روسية اطلسية ينتقل معها القتال الى الأرض الروسية مع ما يتبع ذلك من رد قاس على دول حلف شمال الأطلسي القريبة وربما البعيدة. لن يعطي الغرب الطائرات الحربية المتطورة لأوكرانيا، كذلك الأسلحة الهجومية الطويلة الأمد لأنها ستنقل الحرب حتما الى عالمية مدمرة.
في كانون الأول 2021، حذر الرئيس بايدن روسيا من خطأ الهجوم على أوكرانيا مهددا بالعقوبات الكبيرة التاريخية. قسم من هذه العقوبات طبق على دول أخرى ككوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا وأعطى نتائج كبيرة، الا أن هذه العقوبات الروسية أشد من السابقة ولم تعطِ نتائج كبيرة. في آذار 2022، توقع معهد المالية الدولية أن ينحدر الناتج المحلي الروسي 15% قبل آخر السنة، لكن النتيجة لم تكن الا 3% أي متواضعة جدا.
تبعا لصندوق النقد الدولي، انحدر الاقتصاد الروسي 2,2% في 2022 ومن المتوقع أن ينمو 0,3% هذه السنة و2,1% في 2024. هذه أرقام ممتازة تتفوق روسيا بها على معدل نمو الدول الصناعية المتوقع أن يكون 1,4% في 2024. سينحدر الاقتصاد البريطاني 0,6% هذه السنة في دولة بعيدة عن الحرب تنعم باستقرار اقتصادي مع مشاكل مهمة داخلية ومع أوروبا. طبعا البريكسيت والأخطاء الكبيرة في السياسات الاقتصادية هي التي سببت النتائج المتواضعة، انما مقارنة بروسيا فالنتيجة لا تقبل الشك أي نجاح الاقتصاد الروسي في ظروف شديدة الصعوبة.
ما هي أسباب الصمود الروسي الكبير والمدهش في وجه عقوبات غربية قاسية طبقت أقل منها على دول أخرى وكان تأثيرها كبيرا؟
أولا: السياسات الروسية الداخلية التي خففت الخسائر ومنها القيود على رؤس الأموال المغادرة مما حدد من النزيف المالي القاتل. كما قرر المصرف المركزي رفع الفوائد كحافز لابقاء رؤوس الأموال في الداخل. شكلت سياسة الاحتياطي النقدي المانع الأساسي في وجه الانهيار. فاق الاحتياطي الـ 600 مليار دولار في بداية 2022 أي مع بداية الحرب. بالرغم من هذا الغنى الكبير، تأثر الاقتصاد الروسي أي توقف الاستثمار الأجنبي عمليا كما منعت التكنولوجيا الحديثة عن الصناعة الروسية. سيتأثر الاقتصاد الروسي مستقبلا عبر انخفاض البحث والتطوير الذي يسبب النمو. أما الخسارة الأكبر فهي نزوح وربما هجرة آلاف المتخصصين الروس في التكنولوجيا والذين اختاروا الدول المجاورة للعمل فيها دوليا. حصلت تركيا على قسم كبير منهم، لعلهم لم يتأثروا بالزلزال الكارثة الذي ضربها كما ضرب سوريا.
ثانيا: حجم الاقتصاد الروسي كبير وبلغ 1,9 ألف مليار دولار في بداية الحرب. خسارة الـ 3% لا تشكل مشكلة تذكر. أما حجم الاقتصاد الأوكراني فكان 200 مليار دولار أي أصغر بكثير، علما أنه خسر ثلث حجمه منذ بداية الحرب. تتم الحرب في الواقع بين عدوَّين في حجمين مختلفين، وبالتالي النتيجة محسومة سابقا حتى لو زادت المساعدات العسكرية الغربية نحو الكميات المطلوبة. فالصمود الأوكراني لا يتوقف على السلاح والعسكر، بل يحتاج الى المساعدات الاقتصادية والمالية والتقنية الكافية خلال الحرب وبعدها كي يتأمن استمراره وترتفع المعنويات. لا يمكن ربح أي حرب بالعسكر فقط، بل المطلوب أيضا المال والدعم في السلع والخدمات والتكنولوجيا وغيرها. أوكرانيا تطلب الدخول الى الوحدة الأوروبية، علما أنها لم تستوفِ بعد الشروط المطلوبة من قانونية ومؤسساتية وقضائية وغيرها. دخول دول أوروبا الشرقية الى الوحدة الأوروبية أخذ أكثر من 30 سنة وكلف مليارات الدولارات كي تصل تلك الدول الى مستوى التنمية الصحي المطلوب. عملية الانضمام الى الوحدة هي في غاية الصعوبة.
ثالثا: تغيرت العلاقات الروسية التجارية الدولية كثيرا بل تحولت نحو الدول التي لم تعاديها. لا شك أن العلاقات التجارية مع الغرب انحدرت بسبب السياسة والمواجهات المختلفة، لكن العلاقات مع آسيا ازدهرت وعوضت عن الخسارة مع الغرب.
رابعا: التأثير الاقتصادي الدولي المتزايد للدول غير المنحازة، أي التي لم تشارك في العقوبات الغربية وفي مقدمها دول البريكس أي تحديدا الصين والهند. من المتوقع أن تنمو تلك الدول بقوة هذه السنة أي 5,2% للصين، 6,1% للهند، 0,3% لروسيا، 1,2% للبرازيل و 1,2% لدولة أفريقيا الجنوبية. هذا مقارنة ب 1,2% للدول الصناعية بينها 1,4% للولايات المتحدة و0,7% للوحدة الأوروبية. تدل هذا الأرقام على أن أوضاع الاقتصاد الروسي ليست أسواء بكثير من الاقتصادات الأخرى التي تعاني من التضخم والطاقة والأوضاع الاجتماعية الخطيرة. استفادت روسيا من علاقاتها الدولية المتنوعة وستبني عليها مستقبلا.