بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 أيلول 2020 07:18ص فرنسا تجدّد وصايتها بعد مئة عام

حجم الخط
في اليوم الأوّل للمئوية الثانية لإعلان دولة لبنان الكبير، وعلى ضوء النتائج التي أفضت إليها الاستشارات النيابية الالزامية التي أجراها الرئيس ميشال عون، بتكليف السفير مصطفى أديب بتشكيل حكومة بديلة لحكومة حسان دياب التي استقالت نتيجة فشلها في تحقيق العملية الإصلاحية التي تعهدت بتنفيذها وارتدادات النكبة التي تسبب بها الانفجار الضخم في مرفأ بيروت، تتأكد مقولة الرئيس الأسبق الياس الهراوي بأن لبنان هو بحاجة دائمة للوصاية وبأن «اللبنانيين لم يبلغوا سن الرشد» السياسي.

في مراجعة سريعة للمحطات في تاريخ الحكم في لبنان منذ الاستقلال إلى هذا اليوم يتأكد لنا بأن الاستقرار العام والازدهار الاقتصادي لم يتحققا الا في ظل وجود وصاية خارجية (دولية أو عربية) قادرة على تأمين التوازنات بين مختلف المكونات الطائفية والسياسية، وتحقيق انتظام عمل المؤسسات الرئيسة في الدولة. كانت الوصاية في البداية مع سلطات الانتداب الفرنسي، والتي شكلت وصاية سياسية، وإدارية وثقافية عميقة، ولكنها سرعان ما واجهنا قوة منافسة سياسية من بريطانيا، والتي تبددت بالقرار الاميركي الداعي لدخول لبنان في «حلف بغداد»، والذي أدى إلى انقسام سياسي حاد داخل لبنان، سرعان ما تحوّل إلى ثورة مسلحة، انتهت بدخول قوات المارينز الأميركية إلى لبنان في تموز 1958، وانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب كرئيس للجمهورية، يخلف الرئيس كميل شمعون. وتوالت على لبنان الوصايات، والتي تميزت بالوصاية الناصرية، التي نجحت في تحقيق التوازن الداخلي، مع افساحها في المجال لبقاء لبنان تحت الوصاية الثقافية الغربية، وكانت في نهاية هذه الفترة الاهتزازات الأمنية والسياسية التي تسبب بها الدخول الفلسطيني إلى لبنان، وخصوصا بعد توقيع اتفاق القاهرة، والذي قاد في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب الأهلية في نيسان عام 1975، والتي أدّت إلى انهيار السلطة الوطنية بعد تفكيك الجيش وتقاسم مؤسسات الدولة واداراتها.

تعددت وتشعبت الوصايات الخارجية على لبنان خلال فترة الحرب والتي استمرت لعقد ونصف، حيث استقرت بعد توقيع اتفاق الطائف بيد سوريا واجهزتها العسكرية والمخابراتية المحتلة للبنان، ونجحت سلطات الوصاية السورية في فرض هيمنتها الكاملة على لبنان امنياً وسياسياً، وهكذا استقرت العلاقات بين مختلف مؤسسات الدولة، وضمن معادلة إقرار وموافقة الجميع على الترابط الاستراتيجي والمصالح المشتركة بين البلدين، وبحماية القوات السورية المنتشرة في جميع المناطق.

لم يشهد لبنان أزمة حكم أو أزمات تشكيل حكومات طيلة فترة الوصاية السورية، حيث احتكروا تسمية الرؤساء والوزراء والنواب وتسمية قادة الأجهزة الأمنية، وغيرها من المواقع الهامة في سلسلة القرار. كما استقرت الأوضاع الأمنية بفعل سيطرتهم العسكرية والمخابراتية إلى حين اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. والذي كان سبقه صدور قرار دولي بمبادرة اميركية- فرنسية بضرورة خروج القوات السورية من لبنان.

بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 انقسم المجتع اللبناني بشكل حاد ما بين معسكر 14 آذار ومعسكر 8 آذار، انعكس ذلك على الاستقرار العام، وخصوصا بعد الحرب الثانية مع إسرائيل عام 2006، وعودة حزب الله إلى الداخل بكامل فائض قدراته العسكرية. وانعكس ذلك سلباً على أداء الدولة، من خلال تعطيل موقع رئاسة الجمهورية بإحداث فراغ رئاسي مرتين، واقفال مجلس النواب لفترات طويلة بالإضافة إلى تعطيل عملية تأليف الحكومات لأشهر أو شلّها واسقاطها، وفق مشيئة حزب الله وحلفائه.

ما زال لبنان منذ 2005 يعيش في ظل الوصاية الإيرانية والمتمثلة سياسيا وعلى الأرض بفائض القوة الذي يمارسه حزب الله. وكان آخر فصول هذه الوصاية تشكيل حكومة حسان دياب والتي سميت حكومة حزب الله، وعلى هذا الأساس جرى عزلها دولياً وعربياً، إلى ان سقطت بفعل ارتدادات التحرّك في الشارع وانفجار مرفأ بيروت، والذي ادى الى تدمير اجزاء واسعة من بيروت.

لم تستطع حكومة دياب من الوفاء بأي من الخطوات الإصلاحية على الصعيد الاقتصادي والمالي أو لجهة الوعود بإجراء إصلاحات أساسية في الأداء العام للدولة، وجاءت استقالتها بعد تأكيد نكبة انفجار المرفأ، لتدفع بالوضعين السياسي والاقتصادي، المعيشي نحو الهاوية.

بات لبنان بعد استقالة حكومة دياب معرضاً للدخول في أزمة حكم، بحيث انه لم يكن من السهل على رئيس الجمهورية القيام بالخطوات التي ينص عليها الدستور من أجل تشكيل حكومة بديلة، قادرة على انتشال البلاد من الأزمات المعقدة التي باتت غارقة فيها.

تحسست الحكومة الفرنسية خطورة الأوضاع التي يواجهها لبنان، كما ادركت مدى عجز السلطة اللبنانية على القيام بأية مبادرة سياسية أو إصلاحية لإنقاذ لبنان من الانهيار أو الزوال، وترجمت الرئاسة الفرنسية هذه الهواجس بمبادرة من الرئيس ايمانويل ماكرون بزيارة لبنان بعد انفجار المرفأ للاطلاع على الأوضاع وتقديم النصائح السياسية اللازمة حول ضرورة تسريع إعادة تشكيل الحكومة والبدء بالعملية الاصلاحية، بالإضافة إلى رفع الصوت لطلب المساعدات الإنسانية اللازمة، ويبدو بأن النصائح لم تنفع مع السياسيين اللبنانيين حيث استمر البحث عن تشكيل الحكومة قبل تكليف رئيس لها،وفق ما ينص عليه الدستور.

لم يتحرك الطاقم السياسي قيد أنملة في عملية اجراء استشارات نيابية لتسمية رئيس للحكومة، وهذا ما دفع ماكرون إلى اتخاذ المبادرة وطرح اسم السفير مصطفى أديب على الرئيس عون وعلى الرئيس سعد الحريري وبقية القوى السياسية. كما ذهب بعيداً في اتصالاته ليصل إلى الرئيس حسن روحاني يتوسطه للحصول على موافقة حزب الله.

نجحت مبادرة ماكرون من أجل تسمية السفير أديب كرئيس للحكومة واصطفت معظم القوى السياسية بانتظام في الاستشارات النيابية القصيرة نسبياً، ليعلن 90 نائباً تسميتهم لرئيس الحكومة العتيدة.

عاد لبنان ووجد الوصفة الشافية لكل أمراضه المزمنة من خلال دخول الرئيس الفرنسي كسلطة وصاية جديدة توجّه وتأمر جميع القوى السياسية اللبنانية- إسلامية كانت أو مسيحية للقيام بالخطوات السديدة لإنقاذ الدولة اللبنانية من السقوط والزوال، تمهيداً لإنقاذ الشعب اللبناني من المجاعة التي بدأت تطرق  أبوابه.

بعد مئة سنة من إعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير من قصر الصنوبر، يعود لبنان من جديد تحت مظلة الوصاية الفرنسية، والتي تمثل بارقة أمل للنجاح في تشكيل حكومة جديدة من خارج «بازار» المحاصصة الذي تعودناه منذ الاستقلال، والذي أدى إلى اضعاف الدولة بكامل مؤسساتها، كما عمم حالة من الفساد الكلي والشامل، أدّت إلى إفلاس الدولة ومعها النظام المصرفي بالكامل.

دفعت حالة الفقر واليأس التي حلت باللبنانيين، ناهيك عن الصدمة التي احدثها انفجار المرفأ، بعض اللبنانيين الذين التقوا الرئيس ماكرون في الجميزة أثناء زيارته الأولى لمطالبته بعودة نظام الانتداب الفرنسي إلى لبنان، هي صرخة غير عقلانية وغير وطنية دون شك، ولكنها تعبّر عن هول الصدمة، ومستوى التشاؤم الذي يحسّ به اللبنانيون جرّاء عجز الدولة وفسادها، مع انسداد كامل لفسحة الأمل بإمكانية تجديد الطبقة السياسية تمهيدا لإقامة حكم صالح وقادر.

تفاجأت باتهام الرئيس الهراوي للبنانيين بالقصور السياسي وعدم النضج وبلوغ سن الرشد السياسي، واعتبرت ان كلامه يأتي في سياق الانتقاد غير المباشر لخضوع اللبنانيين شبه الكامل لوصاية السوريين، ولكني أرى بأنه كان على حق في هذا التوصيف للطبقة السياسية، والتي قال عنها سفير أميركي سابق بأنها اساءت في ادائها إلى ان حوّلت لبنان إلى حالة «اللادولة».

ويبقى السؤال الآن: هل ينجح ماكرون في وصايته على الحكومة ورئيسها للقيام بالاصلاحات المطلوبة، وتجديد الطبقة السياسية القادرة على بناء الدولة السيدة والعادلة؟