بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تموز 2023 12:05ص هروب إلى الأمام لتبذير ونهب أموال الإحتياط العام

حجم الخط
بعد ثلاثين سنة من تربُّعه على عرش حاكمية مصرف لبنان يتهيأ رياض سلامة لمغادرة موقعه بعد بضعة أيام، محملاً بهموم الملاحقات القضائية الخارجية - التي تتهمه بسوء الإدارة المالية والفساد والتهرب من المسؤولية، والتي استمرت حتى أيار الماضي عن بلاغين بصدور توقيف بحقه في فرنسا والمانيا مع المفارقة بأن مغادرته لموقعه تترافق مع مخاوف وتوقعات بحصول انهيارات جديدة في قيمة صرف الليرة، مع كل ما يمكن توقعه من تداعيات كارثية على مالية الدولة وعلى مستوى معيشة المواطنين.
استمر رياض سلامة خلال ما يقارب أربع سنوات من عمر أزمة الانهيار المالي والنقدي في لبنان في إنكار التهم الموجهة إليه بالتقصير في واجباته وبالفساد، مستفيداً من الغطاء السياسي الذي أمنته الطبقة السياسية اللبنانية بصورة عامة، والحماية التي أمنها له عدد من ابرز الشخصيات في الحكم . لكن من المؤسف والمثير للعجب بأن رحيل رياض سلامة سيولد ازمة جديدة في ادارة الوضع النقدي، من خلال إحجام نواب الحاكم الأربعة عن تحمل مسؤولياتهم في ادارة المرقف العام وفق ما تنص عليه المادة 24 من قانون النقد والتسليف بأن النائب الاول ملزم باستلام مسؤوليات الحاكم بعد انتهاء مهمته في آخر الشهر الجاري.
من الامور المثيرة للسخرية والغضب في آن واحد، بأن حكومة تصريف الاعمال والمجلس النيابي يجيزان لنواب الحاكم التهديد بتقديم استقالة جماعية اذا لم تؤمن لهم السلطة السياسية الضمانات اللازمة لتحمل مخاطر القرارات التي سيتخذونها في غياب الحاكم سلامة . هل نسي النواب الاربعة بأن وجودهم في مواقعهم يفرض عليهم الاضطلاع بوظائفهم استناداً الى نص القانون وبأنهم ليسوا بحاجة لحماية او دعم من ايه جهة أخرى سياسية او قضائية او ادارية. ان ما نشهده وتصريحات بعد الاجتماع مع لجنة الادارة والعدل وبعد الاجتماع مع رئيس الحكومة يؤشر الى وجود حالة من التهرُّب من المسؤولية من قبل النائب الاول، ومن الجهة السياسية التي دعمت تعيينه في موقعه، أو حالة من عدم الكفاءة ومن انعدام الثقة بالنفس. السؤال المطروح بإلحاح بعد الأزمة المفتعلة لرحيل رياض سلامة عن الحاكمية : ما هي دواعي الخوف من تحمل مسؤولية إدارة الوضع النقدي من قبل نواب الحكم ومعهم بقية اعضاء المجلس المركزي ؟ وهل يخشون حصول انهيار في قيمة الليرة تزيد عن 62 مرة عن قيمتها الراهنة، على غرار ما حصل في ظل ادارة الحاكم الاصيل، حيث غيّر سعر الدولار ما يقارب مئة ألف ليرة بعد ان كان ألف وخسماية ليرة في خريف 2019.
في الواقع ما نشهده من فصول هذه الازمة الجديدة التي يتسبب بها رحيل سلامة عن الحاكمية، على مستوى مصرف لبنان ومجلس النواب والحكومة يؤكد بزوال وسقوط كل عناصر السلطة من تشريعية وتنفيذية وقضائية وادارية، ولا نغالي اذا قلنا بسقوط الدستور وكل قوانين الجمهورية اللبناتية، وعلى رأسها قانون النقد والتنفيذ ألا يدرك نواب الحاكم الأربعة انهم شركاء في التسبب بسقوط لبنان في ازمة مالية ونقدية - صنفت الأسوأ في التاريخ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبأن اسبابها باتت معروفة من قبل العامة والخاصة، وهي تنطلق من قاعدتي سوء الادارة المالية وتعميم حالة الفساد بين الحكام والنخب السياسية.
والمؤسف انه بالرغم من النتائج الكارثية التي تسببت بها هذه الأزمة على الاقتصاد الوطني وعلى مستوى معيشة الشعب فإن رياض سلامة سيغادر مكتبه في 31 تموز، دون الشعور بأي خطر بتوقيفه من قبل القضاء اللبناني أو بأي خوف من تسليمه للقضاء الفرنسي او الالماني، وسيكون وضعه محمياً بالقوانين اللبنانية التي منعت تسليم كارلوس غصن الى السلطات اليابانية ، بعد اتهامه بجرائم فساد وسرقة اموال شركة «نيسان» التي كان يديرها.
ماذا يخشى نواب الحكم من تحملهم مسؤولية ادارة الحاكمية، ومن اتخاذهم القرارات «الشجاعة» لإلغاء منصة صيرفة أو التعاميم التي اصدرها سلامة منذ بدء الأزمة المالية والنقدية؟ لا أرى فى الواقع أي مبرر لسلوكيتهم في التلكؤ بقبول المسؤولية في ظل استمرار الطبقة المهيمنة على السلطة، والتي تختزل الدستور في مصالحها الخاصة، كما تمنع تنفيذ القوانين، وملاحقة المجرمين والقتلة، ولنا من المسؤولين عن اغتيال الحريري وبقية الشهداء. أو المسؤولين عن جريمة انفجار مرفاً بيرات، خير مثال على انعدام فكرة المساءلة والاقتصاص من المجرمين في لبنان، هذا بالاضافة الى حماية السارقين للمال العام، وإتاحة كل عناصر الطمأنينة والحماية لهم لينعموا بما نهبوه من اموال المودعين.
لا بد أن نطمئن نواب الحاكم بأن خشيتهم وهواجسهم من مغبّة المساءلة عن اتخاذهم لقرارات خاطئة يمكن أن يتخذوها بعد غياب سلامة هي غير مبررة أو واقعية. وأن عليهم أن يدركوا بأنهم محميون من الطغمة السياسية التي أوصلتهم الى مواقعهم في اعلى قمة السلطة النقدية . هذا بالاضافة الى انه من الطبيعي ان تسقط السلطات النقدية بعد سقوط كل السلطات الاخرى من تشريعية وتنفيذية وقضائية. نحن نعيش في جمهورية «موز» بكل ما تعنيه هذه الصفة من انهيار في معاني السلطة والقانون. فالمجلس النيابي المنتخب حديثاً هو عاجز عن القيام بواجبه لانتخاب رئيس للبلاد، كما انه عاجز عن اصدار القوانين والتشريعات المطلوبة لبدء العملية الاصلاحية والخروج من الازمة ولا وجود لحكومة فاعلة، فحكومة تصريف الأعمال فاشلة ومعدومة في اتخاذ القرارات الضرورية والتي يجيزها الدستور والعرف، وإن اكبر دليل على ذلك يتمثل بالعجز عن مواجهة ازمة الحاكمية والتي دفعت الرئيس ميقاتي لدفع كرة النار الى القضاء والذي سبق له ان سقط سقوطاً ذريعاً في اكثر من مناسبة ومحطة بما في ذلك ممارسة النيابات العامة لوظائفها الاساسية، وتوقيف الفاسدين وعلى رأسهم رياض سلامة.
كان من الطبيعي أن يؤدي هذا السقوط الكبير لمختلف سلطات الدولة، الى تسلّط الدويلة على صلاحيات ومسؤوليات الدولة، وقد ابرز الخطاب الاخير للسيد حسن نصر الله امين عام حزب الله مدى جهوزية وقدرات الحزب على الحلول مكان الدولة بكامل سلطاتها وأجهزتها، بما في ذلك الامور السيادية ومنها الدفاع عن لبنان و وترسيم الحدود البحرية وبعدها الحدود البرية – ويبدو بوضوح بأن الحزب قد سبق ان توقع سقوط السلطات النقدية وإفلاس المصارف - فتسارع الى التحوط من خلال انشاء وتعمیم مؤسسات «القرض الحسن».
في النهاية اقول لنواب الحاكم ان يتحلوا بالشجاعة لقبول تحمل المسؤولية في دولة يغيب فيها مبدأ المساءلة، كما يغيب مبدأ الثواب والعقاب.
في النهاية تسببت الهواجس التي عرضها نواب الحاكم في المجلس النيابي وبعد اجتماعهم مع رئيس حكومة تصريف الاعمال بإسقاط جميع الأقنعة التى تسترت خلفها الطغمة الحاكمة من بدء الأزمة المالية الراهنة، والتي ادعت حرصها على الحفاظ على حقوق المودعين، في الوقت الذي تستمر فيه بمطالبة الحاكمية بتأمين الاستقرارالنقدي على حساب ما تبقّى من اموال المودعين.
لا بد ان يدرك نواب الحاكم بأن مطالبتهم الاصلاحية المرفقة بهواجسهم لن تنجح في دفع مجلس النواب والحكومة على السير قدماً بالاصلاحات المطلوبة، بعدما نجحت هذه الطغمة السياسية في التهرب من تنفيذ أي من المطالب الاصلاحية التي وردت في مؤتمر «سيدر» أو في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
ما نشهده اليوم من خلال ازمة حاكمية مصرف لبنان ليس سوى عملية هروب الى الامام من اجل تبذير ونهب ما تبقّى من اموال المودعين - الموجودة في البنك المركزي كاحتياط إلزامي.