بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آب 2023 12:39ص هل يعيد التاريخ نفسه؟

حجم الخط
هنالك من يقارن بين أوضاع اليوم والسبعينات بسبب الطاقة وأسعارها، وبالتالي يقارن بين تضخم الأمس واليوم.  المقارنة جائزة لكن الأوضاع مختلفة علماً أن بعض مظاهرها مشابه، كما بالنسبة للسياسات المعتمدة وخاصة النقدية.  هنالك موضوع المناخ الذي لم يكن موجودا سابقا وهنالك تغيير كبير في مصادر الطاقة ما زال يعمل على تعميمها دوليا. لم تعد الطاقة عالميا فقط نفطية بل أصبحت شمسية ومائية ونووية وغيرها، وهذا يوسع الشرخ التقني كما المالي.
ارتفعت أسعار النفط في السبعينات بسبب السياسة ومقاطعة العارضين للدول المستهلكة الأساسية شاهدنا خلالها اصطفاف السيارات أمام محطات الوقود لتعبئة الخزانات بأسعار مرتفعة لا تبررها الأسواق الحرة. أما اليوم فالموضوع سياسي أيضا، لكنه ناتج عن حرب روسية في أوكرانيا وما نتج عنها من مشاكل عرض ليس فقط في الطاقة وانما أيضا في الحبوب والغذاء بشكل عام.  تكمن الخطورة الايضافية في وصول المواجهة السياسية الى صراع مباشر بين الدول الكبرى أي أميركا وروسيا كما أميركا والصين، وان تكن بشكل صامت لكنه قابل للاشتعال.  ما يميز أوضاع اليوم عن السبعينات هي الأمور التالية مجتمعة:
أولا: الكورونا وما تبعها من أمراض وموت قبل اكتشاف اللقاح وما بعده.  أثرت الكورونا على جانبي السوق بوضوح.  تأثر الطلب في حجمه وتوزعه اذ توسع الانفاق على الصحة والمساعدات الاجتماعية وخف عن الاستهلاك العادي بسبب الاقفال المتعدد الأوجه.  تأثر العرض بسبب انخفاض انتاج سلع مهمة عديدة وانتقال المصانع الى انتاج ما يرتبط بالصحة.  تأثر قطاع النقل مما عرقل وصول السلع الى من طلبها.  تأثرت سلاسل الامداد وشاهدنا البواخر تنتظر في المرافئ الكبرى دون أن تفرغ.  حصل انتقال كبير لليد العاملة من أماكن استهلاكية عادية كالفنادق والمطاعم الى قطاعات أخرى صناعية وزراعية.
ثانيا: انتقل دور الصين في الاقتصاد العالمي من محرك أساسي الى وضع صعب تباطأ خلاله النمو بسبب الاقفال الكوروني وعدم قدرة الصين على تسويق سلعها كالسابق في الاقتصادات الغربية.  ينتقل الاقتصاد الصيني بسرعة من وضع متفوق الى عادي ساهمت سياسة الطفل الواحد في جعله قاسيا.  الخروج من تلك السياسات ليس سهلا لأن الشعب الصيني تطور خلال هذه السنوات ولم يعد يقبل بالعيش كما كان في السبعينات.  لا ننكر تأثير أوضاع «هونغ كونغ» و«تايوان» على سلطة القرار الصيني واضطراره لنقل المواجهة مع الغرب وأميركا الى حالة مباشرة.  يعود الاقتصاد الصيني الى تحقيق نمو مهم لكن لا يمكن مقارنته بالسبعينات.
ثالثا: الحرب الروسية في أوكرانيا والتي كان من المتوقع أن تنتهي بسرعة الا أنها تطول وتعرقل السلام العالمي المبني على استهلاك السلع وتطوير الاستثمارات.  تطول الحرب بسبب عدم الجهوزية الروسية كما كان متوقعا كما بسبب المقاومة الأوكرانية المدعومة غربيا والتي تستمر حتى مع الدمار الكبير الحاصل. في نفس الوقت، أوروبا خائفة على مستقبلها من الولايات المتحدة والصين وهنالك سعي داخلي لايجاد دور لها كما يحاول الرئيس الفرنسي فعله دون نجاح.  من الممكن لهذه الحرب أن تشتد وتصبح أخطر بكثير وتؤثر مباشرة على السلم العالمي.
رابعا: تغيرت ادارة العالم من ناحيتي الحوكمة والفعالية.  هنالك مؤسسات جديدة تتحدى الموجودة منذ الأربعينيات أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.  توجد اليوم مؤسسة تنمية جديدة أنشئت من قبل دول «البريكس» وهدفها منافسة البنك الدولي في عملية تمويل التنمية، اذ تعتبر أن مؤسسات «بريتون وودز» منحازة وهي أصلا أنشئت لتعميم النظام الاقتصادي الحر عالميا.  لم تعد أجزاء مهمة من العالم تقبل أن يكون رئيس البنك الدولي دائما أميركيا ومدير عام صندوق النقد الدولي أوروبيا مع استثناء لم يدم طويلا.  أنشئ مصرف البريكس للتنمية في 2015 في شانغهاي وتديره اليوم رئيسة البرازيل السابقة «ديلما روسيف».  هنالك اتجاه اليوم لدعوة المملكة العربية السعودية وايران الى الانضمام الى المجموعة بعد النجاح الصيني في اتمام المصالحة مؤخرا.  من هنا تتساءل بعض الجهات عن شروط الانضمام الى المجموعة في غياب معايير علمية واضحة.  في كل حال لن تستطيع مجموعة البريكس النجاح عالميا الا عبر تعاون الصين والهند في كل الأمور، وهذا ما لم يحصل حتى اليوم.  لكن الأمور عالميا تسير باتجاهات عدة لا تدخل فيها المعايير الصحيحة بشكل واضح الا استثنائيا.
أمام هذه الوقائع التي تميز فعلا بين السبعينات واليوم، تقوم النقابات العمالية والمهنية بالمطالبة في تحسين أوضاعها أي زيادة الأجور حتى مع اقتناع بعضها بعدم قدرة القطاعات العامة والخاصة على تلبية المطالب.  «كل مين ايده وله» كما يقول المثل الشائع وكل شيء يصب في الفوضى، والأمثلة واضحة ليس فقط في لبنان وانما أيضا في فرنسا وبريطانيا وغيرهما وفي قطاعات مهمة كالصحة وعلنا أي بجرأة غير معهودة.  ترتكز هذه المطالبات على التوقعات التضخمية التي تمتد عالميا وتجعل تطبيق السياسات العامة صعب.  من هنا يجب اعادة الاعتبار الى المصارف المركزية وتركها تعمل ضمن الاستقلالية التي أعطيت لها عبر وقف تدخل الحكومات في أعمالها. أما السياسات المالية فيجب أن تربط بقواعد أكثر دقة كأن يسمح بالاستدانة العامة فقط لتمويل مشارع بنية تحتية رئيسية تحتاج اليها الاقتصادات.
عموما ليست هنالك حلول للمشاكل الاقتصادية الحالية المتشابهة الا عبر استقرار الأسعار وارتفاع الانتاجية.  لا يمكن رفع الأجور وزيادة المنافع دون أن يأكلها التضخم الا اذا تأمن الاستقرار العام الذي ينعكس ايجابا ليس فقط على السياسة وانما على النقد والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.  يمكننا القول أن التاريخ لا يعيد نفسه اليوم، اذ أن المشاكل الحالية وان تكن متشابهة هي أكبر وأخطر من مشاكل السبعينات كما أن الحلول أصعب.