14 نيسان 2021 12:00ص العدالة من منظور إسلامي والزكاة كفريضة تطبيقية

حجم الخط
الشيخ د. زهير كبي*

كَثُر ورود لفظ العدل بالقرآن الكريم أو ما يشتق منه في أكثر من ثمانية وعشرين موضعاً، فقد ورد في سورة النحل الآية 90 الأمر بالعدل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} كما ورد في سورة النساء الآية 3: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وجاء على لسان نبيه في سورة الشورى الآية 15: (وأمرت لأعدل بينكم)، والعدل أحد أسماء الله الحسنى.

والعدل هو أحد المبادئ الاجتماعية الشرعية التي حضّ عليها الله تعالى في جميع الشرائع السماوية، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} والقسط أحد الألفاظ التي تستعمل بمعنى العدالة وهي من الألفاظ المشتركة التي تعني العدالة وتعني الجور أيضاً.

ومعنى العدل الإنصاف، وقد استعملت في القرآن الكريم في مقابل الظلم والبغي والجور، وقد عرّفها أهل أصول الفقه بأنها ملكة في النفس تمنعها من ارتكاب الكبائر وذلك عند تعريف الراوي العدل، وبهذا المعنى يجب أن يعم العدل في كل شيء في السياسة وفي الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والحقوق، وبدونه لا تسلم المجتمعات ولا تستقر ولا تتقدم، ويفشو الظلم والجور والقهر والفساد، وتعمّ الفوضى، قال تعالى: {وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها} (الحج آية 45) ، يقول ابن قيم الجوزية : «... إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل واسفر وجهه بأي طريق كان، فثمّ شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بيّن سبحانه بما شرّعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق أستخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له» (الطرق الحكمية).

العدالة الاجتماعية

وكثيراً ما يترافق - في أيامنا الحالية - لفظ «العدالة» بلفظ «الاجتماعية» بحيث يكوِّن مفهوماً له معانٍ وأبعاد لتحقيق المساواة بين جميع افراد المجتمع من حيث الحقوق والواجبات ومن حيث فرص العيش الكريم وتوزيع الثروات والتمتع بها وإزالة الفوارق وتكافؤ الفرص وإبعاد مشاعر الإحساس بالظلم والقهر والدونية، وهو ما يقارب وجهة نظر الإسلام لقول نبينا عليه الصلاة والسلام في خطبة أيام التشريق: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» (مسند الإمام أحمد رقم 23536) فالفارق بين الناس تحدثه التقوى، والتقوى تقيّم يوم القيامة يوم الحساب أمام رب الأكوان رب العالمين.

ومن مظاهر العدالة الاجتماعية ما سمّي بالتضامن الاجتماعي أو التضامن المجتمعي بحيث يتحمّل كل فرد من أفراد المجتمع مسؤوليته في التخفيف من معاناة أصحاب الحاجات وقليلي الإمكانيات وهوما نسمّيه في الإسلام بالتكافل الاجتماعي وهو باب من أبواب التراحم الذي حضّنا عليه ديننا، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (صحيح مسلم 6751).

والزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي عبادة ربانية لا يستقيم إسلام المرء إلا بتطبيقها على من وجبت عليه، وهي حق من حقوق الفقراء على الأغنياء قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما أرسله إلى اليمن: «إدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» (صحيح البخاري 1395)، فالزكاة تؤخذ من أغنياء المجتمع، ويقوم متولي أمرها بتوزيعها على مستحقيها الثمانية من نفس المجتمع لتحقيق التكافل الاجتماعي، فيتم بها بناء المجتمع ومواساة الفقراء والمحتاجين، ورفع الحاجة والعوز عن أفراده بحيث لا تنشأ الضغينة والحسد من الفقراء على الأغنياء.

أهداف الزكاة

لقد حاول علماء الشرع، ومن كان له إلمام بشكل أساسي بالاقتصاد الإسلامي، استنباط علّة وجوب الزكاة أو الهدف من وجوبها، فقال الشرعيون أن الزكاة: «طُهرة للمال وطُهرة للنفس من الشح والبخل» والدليل على ذلك قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} كما أن أحد الأهداف الأساسية هي كسب الأجر والثواب لتطبيق فريضة ربانية وإلزام الناس أنفسهم بهذا الركن، قال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف ولا هم يحزنون}، هذان جانبان فيهما الخضوع للّه تعالى واستجابة لأمره بتطبيق شرعه، ومن يلتزم ذلك يُعدّ متعبّداً للّه مطبّقاً لفرائضه داخلاً في العبودية. أما الاقتصاديون فينظرون إلى الزكاة نظرة مختلفة، فهي عندهم تهدف إلى إعادة توزيع الثروة وبالتالي هي مساهمة مالية من أصحاب الأموال لتحقيق العدالة الاجتماعية وهذا الهدف ذُكر في القرآن الكريم بقوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} (الحشر آية 7)، ومن أهدافها كذلك محاربة الفقر بوجهيه: ما كان سببه طارئ اقتصادياً أو اجتماعياً، وما كان سببه عدم القدرة على الكسب والانتاج، ودور الزكاة في محو الفقر يعتمد أساساً على حصيلة الزكاة، وعلى جمعها من أنواعها المختلفة بحيث تسدّ حاجات الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم. 

ومن الأهداف الاقتصادية الحثّ على الاستثمار، وإن اعتبرها البعض حكمة وليس علّة، ولذلك فرضت الزكاة على الأموال المكنوزة، أو ما سمّاها البعض المعطلة عن الاستثمار، بالتساوي وبنفس المقدار وليس بنسبة أقل، وذلك حثّاً من الشارع على تشغيل المال واستثماره بما يحقق دورة اقتصادية متكاملة وحتى لا يكون دولة بين الأغنياء فقط.

ولما قدمنا فإن الزكاة، بكونها فريضة، هي مؤسسة دائمة مستمرة لها أهدافها التي لا يجوز التغيير أوالتعديل بها، كما لها شروطاً ومعدلات وأنصبة وأحكام لا يمكن تغييرها فأحكام الزكاة فيها نصوص واضحة ومفصلة لا يمكن تبديلها، وفي الحديث عن زياد بن الحارث الصدائي قال: «أتيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم فبايعته فذكر حديثاً طويلاً قال فأتاه رجل قال أعطني من الصدقة (أي من مال الزكاة) فقال له رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات (أي الزكاة) حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك» (أبو داود).

لذا لا بد من القول أن فريضة الزكاة هي عين العدالة الاجتماعية وأساسها المتين التي تحقق الإنصاف والتوازن والتراحم والتكافل، ولا بد ونحن نعيش في وضع اجتماعي ومعيشي واقتصادي متأزّم أن نبادر إلى إخراج زكاة أموالنا تحقيقاً للعدالة وتنفيذاً لأمر الله عزّ وجلّ: {... وآتوا الزكاة}.



* المدير العام لصندوق الزكاة في لبنان