بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 آذار 2020 12:04ص الوسواس القهري: معركة الدماغ الطاحنة والإسلام ترسانة كبرى من الأسلحة لمحاربته

حجم الخط
يردّد شبابنا الطلابي من ثانوي وجامعي هذه الأيام الكلام عن مرض نفسي يسمّى «الوسواس القهري» أو مرض الــــ «OCD» كإختصار لــ «Obsessive Compulsive Disorder»، منهم من يجاهر بأنه يعاني من هذا المرض ومنهم من يدّعي أن غيره يعاني من هذا المرض، منهم من يصيب في هذا الكلام ومنهم من يخطئ، حيث أن مفهوم الوسواس القهري غير واضح عند الجميع.

قد يكون من المفيد أن يعي مجتمعنا اللبناني وخاصة الشبابي منه بعض الأمور المتعلقة بهذا المرض. مثلاً، ما هو هذا المرض بالتحديد، ما مدى انتشاره، وما هي سبل علاجه؟

يتميّز مرض الوسواس القهري (OCD) بتلازم دائم بفكرة معينة والتي تشكّل هاجساً لصاحبها الذي لا يستطيع التخلّي عنها أو الانفكاك منها. غالباً، يدفع هذا الهاجس المصاب به الى ممارسة سلوكيات متكررة بشكل قهري ما يسبب إزعاجاً شديداً لهذا المصاب. على سبيل المثال, الخوف من التلوث والأوساخ, ولتخفيف هذا الخوف قد يغسل المرء يديه عشرات المرات في اليوم ما قد يسبب تشققاً و نزيفاً في جلد اليدين.

ذكرت إحصاءات لمنظمة الصحة العالمية (WHO) ان 2.3% من سكان العالم يعانون من مرض الوسواس القهري وأن هذا المرض هو من الأمراض العشرة الأوائل المعيقة للبشر. وهو خامس مرض تسبباً لإعاقة النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و44. كما وأنه يحتل المرتبة الرابعة بين الأمراض النفسية الأكثر انتشاراً.

تفيد بعض المعلومات عن هذا المرض من الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA) ان هذا المرض يصيب أشخاصاً من كل الطبقات الاجتماعية ومن كل العروق البشرية وكأنه لا يستثني أي مجموعة معينة من البشر.

لمقارنة وضع هذا المرض في منطقة بيروت الكبرى مع بعض الإحصاءات العالمية المتعلقة به تقدّمنا بمجموعة من الأسئلة الى عشرين من المعالجين لهذا المرض في منطقة بيروت الكبرى خلال العامين 2018 و2019 – وهم متخصصون إما في الطب النفسي، أو في طب الأعصاب، او في العلاج النفسي حصراً.

تبيّن لنا من خلال هذا المسح ان نسبة الذين يعانون من الوسواس القهري من بين كل المرضى الذين يسعون لعلاج أمراضهم النفسية لدى هؤلاء المعالجين العشرين في منطقة بيروت الكبرى تشكّل حوالى 11%.

من المعلومات التي أحصيناها أيضاً هو: ما مدى حدّة هذا المرض بالمصابين فيه والذين طلبوا مساعدة المعالجين الذين سألناهم، تبيّن أن معدله يقارب 6.7 درجة من أصل عشر درجات من الحدّة.

أما فيما يتعلق بعلاج هذا المرض فقد بدا لنا من مسحنا أن نصف الساعين لعلاج الــ OCD تقريباً يزورون أكثر من معالج أو طبيب معالج واحد. ولعل من أسباب هذا الانتقال من اختصاصي الى آخر حسب أقوال الاختصاصيين الذين سألناهم ومما سمعوه من مرضاهم: أن الاختصاصي السابق لم يتفهّم مرضهم وحالتهم النفسية، أو ان الاختصاصي السابق لم يستطع إخراجهم من حالتهم المرضية بالسرعة المطلوبة، علماً أن معالجة هذا المرض يتطلب وقتاً وجهداً من المريض.

لقد بيّنت دراستنا أيضاً أن حوالى 42% من مرضى الـــ OCD يتلقون علاجاً نفسياً بالإضافة الى علاج دوائي. وإن نسبة نجاح علاج هؤلاء المرضى الذين يتلقون علاجاً دوائياً أو علاجاً دوائياً ونفسياً معاً هي حوالى 70%، وذلك حسب تقديرات الاختصاصيين الذين سألناهم. ويجدر بالذكر أن بعض المرضى لا يتابعون علاجهم للتغلب الكلي على مرضهم، وتبلغ نسبة هؤلاء حوالى 40% من الذين تلقّوا علاجاً. من أهم أسباب التوقف عن العلاج حسب تقديرات المعالجين: التكلفة المادية للعلاج، الوقت المطلوب للحصول على نتائج العلاج، رفض بعض المرضى تلقّي علاج دوائي لأسباب شخصية أو عائلية، والتأثيرات الجانبية للأدوية.

بعض المرضى يرفضون تلقّي علاجاً نفسياً، رغم قبولهم بتلقّي علاج دوائي، يعود ذلك الى التكلفة المادية لهذا العلاج، او لعدم الاقتناع بجدوى العلاج النفسي، أو للوقت الطويل نسبياً الذي يتطلبه نجاح العلاج النفسي, أو لعدم الاعتقاد بوجود المرض أساسا, والظن بوجود مسٍّ من الجن, وعند ذلك يرفضون كل أنواع العلاج.

إن العلاج النفسي لمرضى الــــ OCD له أهمية كبيرة في الوصول الى نتائج طويلة الأمد وهو لا يقلّ أهمية عن العلاج الدوائي.

التفسير الإسلامي لظاهرة الوسواس القهري

بالإمكان تلخيصه على النحو التالي:

يتمتع كل إنسان بمعالم شخصية (Personality Profile) تصل معه الى الدنيا محفورة في جيناته وتدخل في مخزون الذاكرة، ومن بين هذه المعالم معلم القلق من فكرة ما أو من ظرف معيّن.

يعادي الإنسان عند بلوغه عدوّان: النفس الامارة بالسوء وجندي الشيطان المنتدب لديه من قبل إبليس اللعين، يتربص الشيطان بالإنسان القلِق في داخله، حتى إذا ما سنحت له الفرصة في معرض تفكير معين أو حدث خارجي معين، فيسارع الى النزغ له من خلال إلقاء فكرة وسواسية - دون الفرض أو الاجبار حيث لا سلطة له عليه – من بين ملايين الأفكار القابلة للنزع، فتدخل في حلقة دائرة مفرغة (viciouscircle) داخل الدماغ، لتبدأ سلسلة لا متناهية من الدوران لهذه الفكرة بصورة لا إرادية ثم تتثبت وتتجذّر حتى تحتل في البداية مساحة صغيرة من التفكير ثم تتوسّع تدريجياً حتى تحتل مساحة التفكير بالكلية وتشل بقية الملكات الذهنية العليا عن العمل، فيصبح المريض أسيراً تحت ضربات الفكرة التي تهدر كل الطاقة المختزنة في الجهاز العصبي المركزي.

ويمتلك الإسلام ترسانة كبرى من الأسلحة لمحاربة الوسواس القهري: فبالإضافة الى العلاج الدوائي الكيميائي الذي يصفه الطبيب المختص، الذي يجب تناوله بالضرورة، والعلاجات النفسية المختلفة، يقدّم الإسلام علاج التنبيه من مخاطر الانصياع الى نزغات ووساوس الشيطان بالتحصّن بالقرآن والسنَة النبوية، والى استذكار الإعداد للإجابة عن الأسئلة الأربعة في وقفة الحساب بين يدي الله جلّ جلاله في المرحلة الرابعة من مراحل يوم القيامة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه, وعن جسده فيم أبلاه, وعن علمه ماذا عمل فيه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه». 

ورغم انتشار مرض الوسواس القهري الى حد لا يستهان به إلا ان علاجه, بل ان علاجاته متوفرة ومتعددة, ويستحسن من المصاب بهذا المرض أن يستفيد منها مجتمعة، أي أن يحصل على العلاج الدوائي, النفسي, والروحي/ الديني معا وذلك للوصول الى أفضل وأسرع نتيجة ممكنة. 

إعداد: د. فؤاد العريس وأ. كمال نحاس