بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 نيسان 2024 12:00ص زاوية ابن عراق مكان للصلاة... لا فسحة للعبة الغميّضة

حجم الخط
من المتفق عليه ان لأماكن العبادة والصلاة قدسيتها التي يجب مراعاتها، وكذلك الزوايا التي كانت تقام فيها الصلوات والذكر. من زوايا بيروت التي بقيت صامدة على مرِّ الزمن زاوية الشيخ أبي النصر اليافي والتي حلَّ محلها مؤخراً جامع محمد الأمين صلى الله عليه وسلم. وزاوية محمد بن عراق التي كانت تقع الى يمين الداخل في السوق الطويلة وظهر بناؤها وما كان فيها من أضرحة خلال إزالة ركام ما خلّفته الحرب الأهلية سنة 1991م.
ومن دواعي الفخر أن أكون أول من نبّه الى أهمية تلك الزاوية والتعريف بها وذلك في شهر تموز 1991م في مقال نشرته في مجلة «الأفكار» مشفوعاً بصور أخذتها شخصياً للزاوية من الداخل ومن الخارج، وكان ذلك قبل سنة تقريباً من الضجة التي أُحدثت حولها, وأذكر انني في تلك السنة وبالتحديد في 18/5/ 1991م زرت مديرية الأوقاف الإسلامية، يوم كان سماحة المفتي الحالي الشيخ عبد اللطيف دريان مديرها بالوكالة، وقد تكرّم وأطلعني على السجل الخاص بالأوقاف الإسلامية وفيه وثائق تعود لما قبل سنة 1259هـ وهو التاريخ الذي تبدأ فيه السجلات الشرعية الموجودة حالياً. كما أطلعني على بعض اللقى الحجرية والتي يجب تخصيصها في مكان خاص كمتحف. وكان من هذه اللقى لوحة حجرية سميكة عليها سطران أحرفهما نافرة نُقلت سنة 1982م من داخل زاوية ابن عراق. كتب في السطر الأول بالتركية «قطب العارفين الشيخ محمد العراقي تربة حضرتلري لطيفه سي» وكان نص السطر الثاني بالعربية «تربة قطب العارفين الشيخ محمد العراقي اللطيفه». ونسارع الى القول بان لفظ «تربة» لا يعني ان محمد بن عراق مدفون فيها وإنما سمّيت كذلك لأنها كانت زاوية للصلاة والذكر والتدريس أقامها محمد بن عراق دفين لمدينة المنورة. وقد دفن في الزاوية «التربة» بعض أئمة الزاوية وتلامذتها منهم الشيخ عبد الغني البنداق.

سيرة الشيخ محمد بن عراق

وفي سيرة الشيخ محمد بن عراق نقول باختصار انه محمد بن عبد الرحمن بن عراق الدمشقي، كان من أولاد المماليك الجراكسة، وكان ذا مال عظيم. ولد سنة 878هـ وقرأ القرآن الكريم وختمه تجويداً. اشتغل بالحساب وجوّد الخط وأخذ علم الرماية ثم توجه الى بيروت لاستيفاء لقطاع والده فسمع وهو فيها برجل من الصالحين يسمّى سيدي محمد الرايق فزاره ودعا له وقال له: يا ولدي إن أحببت التماس البركة من يد أهلها فعليك بأحد ثلاثة: رجل ببيروت يُسمّى الشيخ عفان ورجل في طرابلس يُسمّى الشيخ ياسر والثالث في صيدا يُسمّى الشيخ عمر المبيض. فيسّر الله له اجتماعه بالثلاثة. ثم توجه ابن عراق الى دمشق واشتغل بالفروسية والرمي واللهو الى أن تيسّر له من علّمه التفسير والفقه والحديث والأصول والبيان، فلزم الزهد والرياضة على يد شيخه علي بن ميمون المغربي الفاسي والذي كان اجتماعه به في الزاوية الحمراء التي كانت بجوار الجامع العمري الكبير في بيروت، وزارا معاً مقام الإمام الأوزاعي. وبقي ابن عراق في بيروت خمس سنوات ثم ذهب الى دمشق الى أن أذن له ابن ميمون بالعودة الى بيروت والقعود فيها لتربية المريدين.
وسأله شيخه عن أماكن في رؤوس الجبال فذكر له مجدل معوش (قرب جزين) فهاجر إليها سنة 917هـ وصحبه ابن عراق وولده وشخص ثالث ولازموه خمسة أشهر الى أن توفي ابن ميمون ودفن في تلك القرية. وبقي ابن عراق في مجدل معوش ست سنوات وعاد الى بيروت سنة 923هـ/ 1517م وبنى داراً لعياله ورباطاً للفقراء، فقصده الناس وازدحم العلماء والطلاب على زاويته. وتوجه سنة 933هـ/ 1526م الى الأراضي المقدّسة وتوفي فيها.
يُذكر ان السلطان سليم الأول دخل دمشق في أول رمضان 922هـ أثناء وجود محمد بن عراق فيها. وذلك قبل انتقاله الى بيروت وذيوع شهرته، وأرادت السلطة العثمانية الجديدة تكريمه فأنشأت سبيلاً لزاويته ولزاوية الإمام الأوزاعي المقابلة في السوق الطويلة.

نص تأريخ إنشاء السبيل

ونقل داود كنعان سنة 1871م في جريدة «الجنان» نص تأريخ إنشاء السبيل كما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم. أنشأ هذا السبيل المبارك برسم الزاوية العمرية المعروفة بزاوية سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلّامة الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي نفّعنا الله ببركته. أنشأه لوجه الله تعالى أحد العمدة الشريفة من المرحوم مولانا السلطان سليم خان تغمده الله برحمته. أنشأه أضعف العباد سليمان الصوباشي والكاتب ببيروت تقبّل الله بإشارة الفقير إليه تعالى المستمد المدد من الشيخ الإمام العلّامة الشيخ محمد بن عراق تغمده الله برحمته ونفّعنا ببركته. وعمّر هذا السبيل بإشارة الفقير إليه الجليل الشريف الشيخ عبد الرحيم المرابط بثغر بيروت تقبّل الله ونفعّنا ببركاته بتاريخ الثامن شهر ذي القعدة الحرام سنة 935 الموافق 14 تموز 1529 مسيحية». (والصوباشي تركية مركبة من صو الماء وباشي الرئيس، أطلقت في العهد العثماني على وظيفة عسكرية تقابل مدير الشرطة وكانت تعني ضابط البلدة المعيّن من قبل السلطان ويلفظها البعض شوباصي). ولم يعد للسبيل المذكور من أثر ولا كلّف أحد نفسه أمر حفظ لوحة التأريخ مع بقية القليل من الآثار الإسلامية البيروتية، لا قبل إنشاء مديرية الأوقاف ولا بعد ذلك. وتحوّلت زاوية ابن عراق الى مدرسة دينية ومسجد في آن معاً.
كتب ابن عراق في زاويته ببيروت عدة مؤلفات منها: السفينة العراقية والنفحات المكية وهداية الثقلين في فضل الحرمين ومواهب الرحمن من كشف عورات الشيطان وكتاب سفينة النجاة لمن الى الله الذي جاء جواباً عن مكاتبات وردت إليه وهو في بيروت من علماء يشكون ما حدث قي القرن العاشر من بدع ومنكرات.
وقد ظلت الزاوية مكاناً للدرس والصلاة والذكر الى زمن متقدم من العهد العثماني. فقد ذكر مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله في ديوانه بأن الشيخ عبد الرحمن الكزبري زار بيروت سنة 1813م وحلّ ضيفاً في بيت المفتي المذكور الذي مدح ضيفه بقصيدة مطوّلة ذكر فيها المقامات والمزارات والزوايا التي زارها الكزبري فكان من بينها زاوية ابن عراق.
تناقل العلماء من دروس ابن عراق في زاويته قوله «اني أرى الخمول نعمة وكل أحد يأباه ، وأرى الظهور نقمة وكل أحد يتمناه، ألا وان في الظهور قصم الظهور»، ونُسب إليه ما أملاه على أحد تلامذته وهو «إلهي كلما أذنبت دعتني سابقة نعمتك الى التوبة، وكلما تبت جذبتني أزمّة قدرتك الى المعصية، فلا التوبة تدوم ولا المعصية تنصرف عني، وما أدري بماذا يختم لي غير ان سابقة الحسنى منك أوجبت لي حسن الظن بك وأنت عند ظن عبدك بك، فهب لي منك توبة باقية واصرف أزمة الشهوات عني وامح زينتها من قلبي بزينة الإيمان وقني من الظلم والبغي والعدوان...».
وروي ان محمد بن عراق كان يأمر أصحابه بحفظ القرآن الكريم وكان يقول كل ليلة بعد صلاة العشاء عقب قراءة «الملك» ثلاث أبيات. ويبدو ان هذا التقليد استمر في بيروت حتى عهد ليس ببعيد، فقد ذكر المفتي الشيخ عبد الباسط ابن الشيخ علي الفاخوري في مخطوطة كبيرة له بعنوان «فرائد الفوائد» كتب قسم منها في صفر 1322هـ/ نيسان 1904م (قبل وفاة المفتي المذكور بسنة تقريباً) ومما ذكره في المخطوط قوله «كان العارف ابن عراق المدني رحمه الله تعالى يعلّم تلامذته أبياتاً لحفظ القرآن فيحفظونه إذا لازموا عليها، وقد حفّظنيها والدي رحمه الله تعالى حيث كنت صغيراً وأنا في المكتب وهي:
كلام قديم لا يملّ سماعه
تنزّه عن قولي وفعلي وقوتي
به أشتفي من كل داء ونوره
دليل لقلبي عند جهلي وحيرتي
فيا ربّ متّعني بسرّ حروفه
ونوّر به سمعي وقلبي ومقلتي» 
ولا شك بأن الشيخ علي الفاخوري حفّظ هذه الأبيات قبل ذلك لتلميذه الشيخ محمد الحوت الكبير.

ما بقي من الزاوية

وهذه الزاوية المباركة التي لم يبق منها إلّا قبتها وبعض جدرانها أصبحت «ديكورا» للفرجة في أسواق بيروت وهي مشرّعة من الجهات الأربع يدخلها من يشاء من الكبار ويدخلها الصغار ويختبئون فيها لاعبين لعبة الغمّيضة بدل أن تسيّج وتوضع عندها لوحة تذكر بانيها وتاريخها علماً بان الصور القديمة للزاوية تنبي بوجود مكبر للصوت على أحد جدرانها لإذاعة الأذان وكان يفترض ترميم مسجد الأوزاعي المقابل لها وتغطية جدرانه بحجر من لون أحجار الزاوية.
فإذا كان القمر لم يخلق للسهر فإن الزاوية والمسجد لم يبنيا للسمر. ولسنا نعترض على وجود الدكاكين والمخازن حول الزاوية والمسجد فذلك من خصائص المدن الإسلامية ولكن الساحة المشار إليها أصبحت فسحة للهو واللعب وإقامة المهرجانات ومعارض الأزياء وملكات الجمال والعري والأناقة والغناء الهابط أكثره. وقد يقال بان ذلك لتشجيع للتجارة وباب لإزدهار الأسواق وكما قيل في أحد الإعلانات الغريبة العجيبة من دعوة للتسوق «من أجل إعادة العزّ لأصحاب المحلات الجارية» (ومن يعيد العز للعمال والفلاحين وصغار الموظفين والطبقة التي كانت متوسطة؟).
ونقول إذا كان لا بد من تشجيع التجارة فلتراعى حرمة الموقعين المذكورين: الزاوية والمسجد. يذكر ان السيد المسيح عليه السلام عندما دخل القدس أثناء تمرّد اليهود على الضرائب الرومانية وسُئل عن رأيه، طلب ديناراً فتأمّله وقال: أعطوا ما للّه للّه وما لقيصر لقيصر ( كان رسم القيصر على أحد وجهي الدينار). فاذا اُريد ازدهار التجارة والأسواق فلا يكن ذلك على حساب قدسية اماكن العبادة والذكر . وأملنا في المرجعية الدينية الجديدة بأن تعيد وصل ما انقطع وتصلّح ما وقع.
* مؤرخ
---------------
(*) هذا المقال لمن يصرّ على وضع شدة على حرف الراء بحيث يصبح اسمه ARRAK كما جاء في البطاقة التي علقتها شركة سوليدير على جدار القبة بدل (عِراق) بكسر العين، وهو خطأ كما ذكر من ترجم له كالغزي والمفتي فتح الله والنبهاني وطه الولي وغيرهم.