بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيلول 2023 12:00ص الصحافة والثقافة اليومية

حجم الخط
لا انفصام بين الثقافة والصحافة. فبين الصحافة والثقافة فاصل وهمي يؤكد ولا ينفي صلة الرحم بينهما وان اختلفت الوظيفة وأدوات العمل. فالصحافة، في نهاية المطاف ظاهرة ثقافية أو مؤشر على مستوى الحياة ومن هنا خطورة دور الثقافية، بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة في بلد ما. الصحافة في نشر الثقافة فان لم تكن راسية في أرضها، معبّرة عن أهلها راية للحرية وحصنا للديمقراطية وكرامة الإنسان، تحوّلت الى نشرة لا تحمل الى الناس إلّا ما يؤذيهم في يومهم وفي مستقبلهم. إنها مصدر الثقافة اليومية للناس: معلوماتهم العامة الى حد كبير، وبالتالي فهي تساهم في تكوين وعيهم وفي تحديد مواقفهم من السياسات في الداخل والخارج. للاستشهاد فقط يمكن التوقف أمام صورة العدو الإسرائيلي كما تقدمها السياسة العربية السائدة عبر وسائل إعلامها عموما والصحافة خصوصا. إن الإعلام العربي بكتلته العظمى (رسمي) أي «حكومي»، وإنه وإن كان يعبّر عن الحاكم ويجمّل رأيه إلّا أنه قد أسهم وهو ما زال يسهم في صنع وجدان (الرعايا) ومفاهيمهم السياسية، ونظرتهم الى الأمور كما انه قد زرع فيهم صورة غير دقيقة عن واقعهم وقدراتهم وصورة كاذبة ومزوّرة عن عدوهم لا يمكن تجاهل تأثيراتها خصوصا وهي تترجم اليوم عمليا في خريطة جديدة وواقع سياسي جديد سيصعب تغييرهما إلّا بنضالات أجيال آتية.
ان الثقافة ليست وحيا يوحى لا هي تهبط بالمظلة من خالق، ولا هي سلعة يمكن استيرادها جاهزة للاستعمال.
والثقافة ليست خارج السياسة، بل الصحيح ان السياسة تعكس الى حد كبير الثقافة السائدة، ومن هنا يمكن القول ان السياسة المعتمدة في لبنان تعكس واقع الحرب/ الحروب التي عاشها هذا اللبنان، كما تعكس واقع العجز عن مقاومة المشروع الصهيوني، على المستوى القومي، وتعكس أخيرا واقع التخلّف والتردّي الذي يعيشه العرب عموما في ظل فرقتهم واقتتالهم الداخلي وافتقادهم الحد الأدنى من التضامن بينما العالم يتصاغر فارضا على الدول أن تسير مع مصالحها اتجاه التقارب والتكتل انطلاقا من الجغرافيا متجاوزة صور الصراع القومي وعداوات التاريخ، لكي تحافظ على دورة حياة طبيعية في ظل الاستقطاب الحاد وتحكم قوة عظمى وحيدة بعالم نهايات القرن العشرين. الثقافة أبعد من تحديدها التقليدي الذي كان يجعلها ركنا في صحيفة أو برنامجا في التلفزيون أو فقرة في المادة المدرسية.
إنها تتسع بمفهومها الأصلي للوعي السياسي للتيارات الفكرية جميعا، للعقائد والموروث الديني، للقيم الاجتماعية، للوعي الاقتصادي والصحي، لأسباب المعرفة، معرفة ما يجري في الكون وموقعك منه وليس فقط موقفك منه. إن الشعر والرواية والقصة القصيرة والنص الأدبي والسينما والمسرح والفن التشكيلي هي بعض وجوه الثقافة وتعبيراتها المباشرة، لكن مفهومها الشامل يتسع للحياة الفردية والجماعية بمختلف قيمها ونظمها واستهدافاتها الطموح. فالثقافة ليست منفصلة عن الواقع السياسي الاجتماعي، الاقتصادي العام ولا يمكن أو لا يجوز أن تكون.
ثم إن الإعلام الخاص كان الى ما قبل اقتحام آبار النفط حلبة الصحافة ضعيف القدرات تقنيا وعلميا وماديا، بحيث انه كان أقرب الى الإعلام الوصفي منه الى المؤسسة الثقافية - الفكرية - السياسية. كان يعرض أكثر مما يحلّل ويخبّر أكثر مما يعمّق أسباب المعرفة، وكان في الغالب على السطح، لا يستطيع ولا تسمح له - الإرادة السياسية أو الامكانات المادية - بأن يدرس فيعرف ويعرف جمهوره على ما خفي عن علمه، ولذا كانت المقالة والخاطرة أو الرأي أو الانطباعات الشخصية تحتل الصدارة، في حين لا تبقى مساحة للدراسة وللبحث العلمي أو للتحقيق الميداني في الموثق. وبرغم ظهور المؤسسات الصحافية الباذخة في السنوات القليلة الماضية، فإن القارئ العربي لم يعرف أكثر عن نفسه وعن عدوه، اللهم إلّا بقدر ما يحرّضه ويؤهّله لأن يتقبّل مشاريع السلام المرسومة للمنطقة. ليست الصحافة نزوة، وليس إصدار الصحف والمجلات وشراء وكالات الأنباء الدولية المفلسة وإقامة محطات التلفزيون ومحطات الإذاعة وتأمين وصولها الى كل عربي عبر القارات بمحطات التقوية أو عبر الأقمار الصناعية الباهظة التكاليف ترفا يمارسه بعض الهواة بقصد إرضاء نرجسيتهم ومصالحهم السياسية.
انها مهمة أجلّ من أن تترك للهواة، أو لأصحاب الأمزجة الحادّة، أو للذين لم يشتهر عنهم إجمالا الميل الى الثقافة، ولم يعرف عنهم الولع بالديمقراطية وحرية الرأي وحق المواطن في أن يعرف الحقيقة أو في أن يختلف مع حاكمه. أما صورة الذات فهي متروكة للتهشيم والتحقير اليومي، وعناوين الصفحات الأولى تزعق يوميا بمآسي الحروب الأهلية في العديد من البلاد العربية والإسلامية وكأنها تزفّ بشائر انتصارات جديدة للنظام العالمي الجديد في العالم القديم وعلى شعوبه المختلفة.

فقط بآرائهم

إن التحدّي الخطير الذي نواجهه يهدّدنا أكثر ما يهدّدنا في ثقافتنا، أي في انتمائنا الى أرضنا الى تاريخنا أي في إيماننا بأن لنا الحق بمستقبل كريم ولائق بكرامتنا كبشر وكأهل لهذه الأرض التي طالما تفجّرت بالرسالات والأفكار والابداعات التي دمغت بطابعها الحضارة الإنسانية في الكثير من أطوارها. وإذا كنا قد خسرنا المعارك العسكرية والسياسية لأسباب خارجة على إرادتنا فلا يجوز أن نخسر أنفسنا بتهجين ثقافتنا وتدجين صحافتنا فنخرج من العصر كله الى الاندثار.