بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تشرين الأول 2019 12:00ص الفكر أولاً!

حجم الخط
أهل القلم هم في طليعة الدُّعاة والروّاد وصانعي الثورات. المجتمع السويّ يصيخ إليهم بأذنيه ويأخذ عنهم ومنهم آيات البيان. انهم في منزلة المعلّمين الموجّهين، لذا تُجزل لهم أسباب الحرية الفكرية والكرامة الإنسانية ما يهيّئ لهم سبل استقلال الرأي والإبداع.

الكاتب عقل وضمير ورسالة، هو رائد القوم وإمامهم وعقلهم المفكّر، وذهنهم الخلّاق وصوتهم المدوّي في الآفاق. خلف كل ثورة حقيقية فاعلة مفكّرون هم أجدى على أمتهم من كثرة حاشدة من أهل التدجيل والنفاق الذين يشبهون القبور المكلَّسة ظاهرها جميل وباطنها مملوءة عظامَ أموات وكلّ نجاسة، فهل يطلّ على العروبة فجر جديد كلّه زهو وفخر، وسمو ونصر، وتشرق في سماء قوميتهم شمس العزّة المنشودة والآخاء الوطيد المأمول؟ متى نقوم فعلاً بثورة فكرية ثم جماعية تقارع الاستعمار في كل أوجهه وتكافح الظلم وتثور على الطغيان، فتخلق دولاً تفتح صدرها لكل مكوّناتها وتعمل معها لنصرة الحق ودعم السلم ورفع راية العدالة وتوفير مجتمع حرّ كريم يسوده الخير والإطمئنان والرفاهية الباسمة؟

ينبغي للشرفاء العقلاء في مجمعاتنا أن يناهضوا بفكرهم السياسات المحلية الغاشمة والمطامع الدولية الدائمة التي لا تزال تلجأ إلى تقسيم دولها وتفريغها.

حاجة مجتمعاتنا إلى أهل الفكر والقلم كحاجتها إلى الماء والغذاء والهواء، خصوصاً أن شعوبنا على جانب خاص من المعطوبية: يقولون الشيء وعكسه، لأنَّ فلسفاتنا الحالية واهية أو وهميّة أو مفقودة، ولا جوهر تتمحور حوله بل أعراض وأخبار بلا وجود حقيقي. المفكّر الثائر، هو يشرف على أزمنة الناس ويسودها ويرتقي بها، إنطلاقاً من فلسفة للكائن والوجود على السواء. انه كائن تاريخي، أي انه كوني وخصوصي وتالياً تجاوزي تجاوزاً جدليّاً موصولاً، ولكن، ينبغي ألّا تعمي بصيرته وعود العولمة الخادعة.

الثورة الفكر يأتي بها والفكر تأتي به الفلسفة والإيمان على السواء. والنشاط الفكري فيض القلوب الكبيرة. ليس دعاة الكلمة لمجرّد كونهم دعاة منقذين. الثورة ليست قضية دعوة ولكنها قضية جوهر وكيان. الدعوة الكبرى هي الوجود الحي المشرق المنبثق من نفوس استقلت عن رغبات العالم ومنطلق المجد الأجوف والمال الحرام. تفوق في الزهد بكل المحسوسات لكي تحوّل البشر سكان الفردوس الذي منطلقه من الباطن ومؤداه في الظاهر وإنما بعيداً عن الازدواجيات القاتلة.. في هذه الأجواء المؤاتية لنشوء الثورات الحقة انطلقت ثورات أوروبا التي لم تكن الفلسفة اليونانية زيد عليها الشرع الروماني والعلم الحديث ليس إلّا، وإنما أحيتها روحانيّة ما وإنْ هي تَعَلْمَنت أو تعقلنت.

هكذا يتضح ان القرن التاسع عشر جسّد في الوقت عينه العقلانية في أبهى حللها وضرورة تناولها بالنقد والمحاكمة شطر الواقع والحياة. هذه الثورة في تاريخ الفلسفة الغربية ابتدعتها نخبة من المفكرين وشأن أمثالها أن تقوم في مجتمعاتنا بعيداً من الانتفاضات والانقلابات التي عرفها العرب أخيرا. وهي لا تشهد للحق، وفي الشهادة له تتجلّى ثوراتهم الحقة. مسؤولية التغيير الفعلي هي في أعناق الفلاسفة إن هم آمنوا بقدوتهم على نقل الجبال وتبديل ما لم يستطع النافذون تبديله. ذلك ان الثورة الفعلية الفاعلة ذات صلة وثيقة بإيمان الملوك الفلاسفة أو الفلاسفة الملوك بأن أعظم الأشياء في العالم تتم في الفكر وفي القلب وان السياسة تأتي تعبيراً عن اهتداء القلوب وتفجّر الضياء في النفوس، ما يتطلب لدى الفلاسفة نسكاً أو وجوداً يعقدون فيه مواعد مع الحقيقة. هذا يعني مراساً شرساً للاستقامة والمجانية وتطهّراً من المادة الجوفاء الرعناء التي لا تلمسها في بلاد النّاس حتى في الفلسفات المادية. ثمّة نخبة من الشرفاء العقلاء يفوقون سائر الورى بما يبدونه من الذكاء العجيب والقريحة الوقّادة والإرادة المحكمة، فيبزغون في سماء جيلهم شموساً وأقماراً نيّرة، مما يخلّد أسماءَهم في صحف التاريخ دون سواهم، ويرفع لهم إعلام الفخر والذكر الطيّب على مرّ الزمان. انهم أئمة في الأمة وقادة عظيمو النفوذ في الألفة لا متحكمين فيها.

نحن متحضرون زائفون ما لم يَقُمْ فلاسفتنا بهذه الثورة التي تحوّلهم وتحوّلنا من سوق عكاظ إلى مائدة الوجود الحقيقي الملتزم وتقينا أولئك الطغاة المستبدين بلا عدل ولا ضمير. وتكثر للأوطان من الخدمة آمنهم ومن القادة أقدرهم وأنشطهم، بعد أن يمضي من النوابغ أذكاهم في سبيل قلب الأذهان قبل الواقع رأساً على عقب.

هل يظل الفعلة ندرة في حين ان الحصاد كثير؟

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه