بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيار 2023 12:00ص المادة معبود الجهّال!

حجم الخط
بين المادة والفنون عامة، عداوة استحكمت حلقاتها في أيامنا هذه.
الفن غذاء الروح، والروح منبثقة من صميم الخلود. المادة قوت الجسم، والجسم ثوب لا يلبث أن يمزّقه الأجل، لتندفع منه النفس حرّة نقيّة تنشد الكمال في آفاق اللانهاية.
الفن كوكب نيّر، يخلع على الوجود أضواء المعرفة، ويكسو أبناء الحياة حلل اللطافة والعرفان، ويرشدهم الى سبيل الخير والحق والجمال. والمادة نار تتأجّج في الصدور، وتستعرّ في الأدمغة، وتمتد الى الأمم والشعوب، فتثير بينها المطامع والأحقاد، والمطامع والأحقاد نواة المواقع والفواجع.
الفن مقياس الرقيّ، ونبراس التقدّم، ومهماز النبوغ، وشمس الإبداع، تحت سنى أنواره تنمو الحضارات، وبتأثير أشعته المحيية تزدهر الكرامات. والمادة مصباح اطفأته رياح الأنانية، وحطّمته عواصف الاستئثار على صخور الاغراض الضيّقة.
الفن زهوة العاطفة، وسمة الضمير، ودليل المجتمع الى محجة العزة الوطنية، والطمأنينة الفكرية والسلام الروحي. والمادة اعراض قد تحجّر الفؤاد، وقد تسلب الرشاد، فتسيء الى أجمل ما يعتزّ به الإنسان.
للفن طريق، وللمادة طريق آخر، وهذان الطريقان يتباعدان في دنيا الجهالة، وفي كل بيئة فُطر أبناؤها على حب المال، وعلى الإعراض عن كنوز العلم والثقافة.
توخيتُ دوما غاية أدبية بحتة، ثابرتُ على ما بدأت به يافعاً من الدأب المستمر والاخلاص القوّيم غير ملتفت الى ما عانيته من ضيق ومكابدة كانا كافيين أن يدكّا صرح آمالي لولا لطف الله وقوة العقيدة وصدق العزيمة وعظم الثقة بقدسية رسالة الفكر والأدب.
وكلّ من رافق حياة الأدباء وأرباب الفن، يعلم علم اليقين، ان المشتغلين بالفن والأدب في بلادنا، هم أكثر الناس دأباً، وأوفرهم تعباً، وأقلّهم كسباً. ومردّ ذلك، الى انهم يعيشون بين قوم تغلّبت عليهم المادة، فصرفتهم عن كل ما من شأنه، أن يصقل الأفكار أو يهذّب الحس والطباع.
ومن المؤسف ان معظم حكوماتنا، لا تولي الأدب والفنون ما تستحقه من عناية ورعاية. وكما يعيش اليتيم في معزل عن حنان الأم وعطف الأب وبرّه، يعيش الأديب أو الفنان عندنا بعيداً عن معاضدة حكومته ومساعدتها، عاملاً في وحدته بصمت وآباء ووفاء، قانعاً من كدّه وجدّه بخدمة وطنة وراحة وجدانه.
الفن والآداب خير وساطة لربط القلوب وتوثيق المبادئ وتفاهم الشعوب ونشر الثقافة في أربعة أنحاء المعمور. وقد أدركت هيئة الأمم المتحدة، ما للآداب والفنون من مقام عالٍ وأثر فعّال، في توجيه الناس نحو هدف الوئام والسلام، فقررت بالاجماع، في القسم الثاني من دورتها الأولى المنعقدة في نيويورك، ابتداء من 23 ت1 الى 15 ك1 عام 1946 «انها تعتبر ان ترجمة الآداب الثقافية العالمية الى لغات أعضاء الأمم المتحدة، من شأنه أن يساعد على التفاهم وانتشار السلام بين الأمم، إذ يخلق ثقافة مشتركة لجميع الشعوب»، وقد ورد في موضع آخر من ذلك القرار المهم ما نصه: «ان ترجمة الآداب الثقافية العالمية، هي مشروع ذو طابع عالمي، له أهمية كبرى من ناحية التعاون والتفاهم الدولي حول المسائل الثقافية».
وهذا وأيم الحق، برهان قاطع على مكانة الآداب وأنشطة الفكر عموماً، وعظيم تأثيرها في خلق عالم جديد يسوده التعاون، واعتراف صريح بأن ما تفسده السياسة يصلحه الأدب. ولا غرو، فان الأدب ابن الروح الخالدة، وربيب العاطفة الإنسانية المرهفة. أما المادة، فانها بغية الجسم الفاني، وصنيعة العناصر الأرضية المنحلّة، وشتّان بين ما تصوغه الروح المنبثقة من نفس الله، وما تنتجه المادة المنبعثة من تراب الأرض.
بفضل الفنون والآداب يرتقي الإنسان مع أخيه الإنسان فيلتقي به. يرتقي بشاهقاتها ليعانق السماء بل ليزامل الله الذي خلقه على صورته. فالمجد لها على الأرض لتتقدّس في السماء.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه