بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 حزيران 2023 12:00ص كتاب محمد شيّا: حضارة العصر العباسي منارة في ليل العصور الوسطى

«محرّكات» الصعود والتراجع نفسها... والبقاء للحضارة والثقافة

حجم الخط
أن يعترف عالِم أفنى حياته في قاعات التدريس الجامعي، وعلى المنابر العلمية والثقافية، واطّلع على المدارس الفلسفية والتاريخية والاجتماعية العربية والإسلامية والغربية، وترجم أهم الأعمال الفكرية والفلسفية والتاريخية، وأغنى المكتبات بأبحاثه وكتبه، بأنه تعلّم من طلابه في رحلته الفكرية الطويلة، فهذا يعود إلى فلسفة التربية والتعليم التي مارسها العميد البروفسور محمد شيّا، وقامت على التفاعل بين المعلم وتلامذته، بهدف إفادتهم من علمه ومعارفه ومقارباته لعلوم الفلسفة والاجتماع والتاريخ من جهة، وعلى الاستفادة، في الوقت ذاته، من أسئلتهم التحفيزية وإعطائهم الردود عليها بموضوعية ومهنية من جهة أخرى.
وليس النتاج العلمي الذي بين أيدينا: «حضارة العصر العباسي منارة في ليل العصور الوسطى- قوانين الصعود والتراجع»،(1) سوى ثمرة لهذا التفاعل الذي أفضى إلى اعتماد البروفسور شيا الحفر عمودياً في الحضارة العباسية، ليضع نظرية حول القوانين التي حكمتها، وكانت وراء صعودها أو هبوطها. فاقترب بذلك من قانون عالم الاجتماع ابن خلدون الذي درس صعود الدول وأفولها، عبر أطوار الدولة ودور العصبية فيها. 
أراد شيّا، بصفته فيلسوفاً، التأريخ لحضارة العصر العباسي، ودراسة صعودها وتراجعها، بمنهجيات ومقاربات تختلف، في رأينا، عن الدراسات السابقة. فثقافته الفلسفية الواسعة وانفتاحه على آراء علماء العصر ومدارسه، مكّناه من وضع تعريّف اجتهادي شخصي لتفسير الحضارة كموضوع يبحث فيه بعمق، بأنها: «مجموع ما تبتكره أو تضيفه جماعة ما من أساليب العيش والتنظيم والأدوات والإنتاج كحلول ناجحة، كافية» للمشكلات، بل المعضلات والتحديات التي تواجهها الجماعة تلك لحظة ما» (ص 39)، فيما يحدث التطور الحضاري، برأيه، «حين تغدو الحلول التي كانت ناجحة، كافية في لحظة ما، غير كافية لحظة تالية. فيبدأ في التجريب والبحث عن حلول جديدة أكثر تقدماً» (ص 39). هذه هي مسيرة الحضارة العباسية بقوانينها على مساحة كتاب شيا، وأي تغيير فيها يؤدي إلى التراجع من حيت انتهت.
ومن خلال وضع قوانين أربعة للحضارة العباسية لثلاثة قرون، وربما تصلح لكل حضارة أخرى، يتتبع شيّا بتأنٍ، «محركاتها» التي نقلتها إلى العلو والسمو، كأهم إسهام في ليل العصور الوسطى في الشرق والغرب، وفي ميزان فلسفة التاريخ. فتصح تلك «المحركات» لأن تكون دوافع وعوامل ارتقاء وإبداع لها، وحتى للدول الإسلامية، لأن الحضارة لا تندثر برأيه، فتبقى آثارها وتأثيراتها. وفي الوقت ذاته، أن تكون هذه العوامل الدافعة مسببات لتقهقرها وتراجعها، عندما توقفت الحضارة عن الاستجابة للتحديات التي كانت وراء صعودها. وتستلزم هذا الفلسفة منهجية تفككيك عُقد الحضارة العباسية وتجميع نتائجها، بغية الوصول إلى الاستنتاج الصحيح والسليم. وقد قام الباحث بتذكير القارئ بتلك الاستنتاجات عند الضرورة في مطالع الفصول وخواتمها، بهدف إعادة ربط أفكاره.  
وعلى عكس الدولة الأموية التي قامت على العصبية العربية، يبين أستاذ الفلسفة والجماليات في الجامعة اللبنانية بأن تضافر خليط من أعراق وشعوب وأصحاب أديان لإنتاج حضارة عباسية (عربية-إسلامية) مشرقة وتفاعلاتها، كان مشروع دولة (من أبي جعفر المنصور حتى نهاية القرن الرابع هجري)، تضمّن تطور العلوم و»الجماليات» (الفصلان التاسع والعاشر) كأنوار ساطعة في ظلمات العصور الوسطى؛ وذلك عبر الثلاثية: السياسة والاقتصاد والمجتمع، كذلك، في ثلاثية مرادفة، هي الفكر والأدب والفنون. وكل ذلك بالانفتاح على المخزون الثقافي والفكري الإسلامي، من دون عُقد عنصرية أو عصبية، حتى على الحضارة العربية قبل الإسلام التي يرفض شيّا، في أكثر من مكان من سفره، أن يصنفها بـ «الجاهلية» قبل الإسلام. ولهذا، يتم نقل العاصمة إلى بغداد المنفتحة على الشعوب والأعراق والأديان السماوية في الشرق، حتى المجوس، ليصبح للأخيرة هوية هي الأقرب إلى السياسية منها إلى الهوية الدينية (ص 53)، فضلاً عن سلطة مركزية (الخليفة، الوزير المفوض، الأمير، أمير الجند)، وتكوين إداري ومالي وقضائي وتشريعات وأوقاف ودواوين ونقل وترجمة وتعريب المصطلحات (53-73، 148-149). كل هذا، حوّل بغداد إلى ممر للحضارة العباسية وللانفتاح على «الآخر» والتسامح، وضمان حياته وماله (ص 72-73)، وصولاً إلى العالمية، وكل ذلك على نقيض الدولة الأموية التي تقوقعت في دمشق على عصبية عربية.
وفي مرحلتي الصعود والتراجع للحضارة العباسية، يتناول البروفسور شيّا القوانين الأربعة التي صاغ فيها فلسفته في التاريخ عبر مرحلتين: الأولى، ويُطلق عليها «الحقبة المضيئة» التي اتسمت بالتألق الحضاري والتماسك الرائع اللذان بصما عصرها في قرونه الثلاثة الأولى، وفق شروط وظروف سياسية تاريخية وحضارية، أسهمت فيها ازدواجية الحفاظ على الأصالة العربية وإضافة التجديد (الإسلامي وربما غير الإسلامي) إليها، لتوفير مقومات التحول الحضاري التصاعدي: التوسع والتطور: السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك، الآداب والفنون والعلوم. 
ويحدثنا المؤلف عن أن الاستقرار أدى إلى قيام اقتصاد مزدهر، وعن توازن في الجبايات والانفاق، وفق شروط سياسية، واقتصاد مديني، ومالي (الصيرفة والبنوك) وتبادل تجاري مع الصين إلى الأطلسي والبحر المتوسط جنوب أوروبا، واستعمال «الدينار العباسي»، فضلاً عن إسهامات ضعيفة في مجال الصناعة والزراعة. وهذا أدى إلى تحول اقتصاد المال العباسي، بعد تراكمه، إلى سلعة للبيع والاستثمار كأي نظام تجاري- رأسمالي حديث، «اقتصاد معولم»، على حد قول الباحث شيا (ص 82-83، 89). 
أما الحقبة الثانية للدولة العباسية، فهي التقهقر أو التراجع أمام التحديات الداخلية والخارجية. فيصفه شيا بالحكم الاستبدادي والترف والبذخ والفوارق الطبقية وإفقار الشعب واستعباد الفلاح والتحالف العسكري-الإقطاعي مع المراكز الدينية، الذي تبعه انهيار الرخاء الاقتصادي والمجتمع، وقيام الثورات، والحركات الرافضة، والشعوبية، بالرغم من بقاء المؤثرات الثقافية للحضارة العباسية إلى ما بعد التراجع. ويطرح المؤلف، بدقة، دينامية الصعود العباسي، وبأنها هي نفسها محرك التراجع والتقهقر. فإذا كان السياسي مدخلاً ضرورياً للاقتصادي، والاثنان هما ممران حاسمين لصعود المجتمع وإطلاق حركة حضارية-ثقافية، فإن تقهقر المجتمع يؤدي إلى ركود اقتصادي، ويؤدي الاثنان معاً إلى التراجع السياسي. من هنا، يثبت شيّا ذلك على مساحة كتابه، بعدما خصص الفصل الثاني من كتابه للقوانين الأربعة التي تحكم الصعود والتراجع (ص 38-52)، ثم يعود إلى تلك القوانين بفصل استنتاجي ينهي فيه الكتاب (الفصل الحادي عشر، ص 215-228).
وفي تفسيره للقوانيين الأربعة التي أدت إلى صعود الحضارة العباسية بين مطلع القرن الثاني للهجرة حتى نهاية القرن الرابع، يتهم شيّا «التمركز الأوروبي على الذات» (Ethnocentrism) بالعنصرية الغربية التي تنفي الابداع عند الشعوب الأخرى وانجازاتها، وتتجاهل أو تقلل من أشكال الإنتاج الحضاري العربي-الإسلامي، ككارل ماركس وبرنارد لويس وهانتغتون... أما المنصفون من علماء الغرب، فيأتي في مقدمهم ديورانت وتوينبي وهونكه وغارودي وغيرهم. وفي صعود الحضارة العباسية، يرى شيّا أنها ابتكرت نظمها والحلول لأساليب عيشها وانتاجها، وطورتها في مرحلة تالية استجابة للتحديات. من هنا يفسر قوانينه الأربعة لصعود الحضارات، ويطبقه على الحضارة العباسية، وهي:
• قانون التحدي والاستجابة السريعة (Challenge and successful response): والأمثلة اكتشاف النار وتداعياتها على حياة الإنسان وغذائه، والاستقرار عبر الزراعة والإنتاج الزراعي وتربية الحيوان (43-45).
• التفاعل والتداخل مع الحضارات الأخرى، وصولاً إلى حضارة بشرية عامة تتشارك الإنجازات (ص 45-46).
• العلاقة بين المركز (المدينة) والأطراف (الريف) كمحدد للصعود والتقهقر. فكلما قوي الأول، كلما ساد الانفتاح وقبول التأثيرات الخارجية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والعكس هو الصحيح: كلما انعزل المركز وفقد روح الدفع، كلما استقوت ثقافة الريف أو الأطراف؛ وساد التقوقع والانغلاق والحذر تجاه الخارج. ويسارع المؤلف إلى القول بأن لا شيء يموت ثقافياً وحضارياً من تاريخ الشعوب والأمم والدول والحقب (ص 49).
• الاستقلال النسبي للإنتاج الثقافي عن الشروط المادية المؤسسة لحضارة. فالتحول السياسي الحاسم، مصحوباً بالاستقرار والانفتاح والازدهار الاقتصادي والتجاري، هو الذي أنتج، خلال قرن واحد، حياة اجتماعية عباسية جديدة جلبت معها نشاطاً أدبياً وفنياً وفكرياً وعلمياً غير مسبوق.
ويسارع البروفسور إلى طرح السؤال المركزي الثاني: لماذا انتهى هذا الازدهار السياسي والاقتصادي والمجتمعي مع نهاية العصر العباسي الأول، بالرغم من استمرار الحياة الثقافية في بغداد والكوفة والبصرة باستقلالية عن الأسباب السياسية والاقتصادية. ويعزو ذلك في ص 112 إلى «قدرة الثقافي والاجتماعي والحضاري على الانفصال... عن السياسي والديني والاقتصادي التي تقف في الأصل خلف التحول الثقافي». وفي هذا السياق، ظلت العربية لغة رسمية ولغة حياة ومجتمع، وإن تأثرت بالثقافة الفارسية (ص 108-110). ويرى شيّا التراجع بفعل الخارج بضغط الاحتلال البويهي والسلجوقي، ومن الداخل بسبب الاستبداد السياسي والعسكري والاقطاعي الداخلي. ويلاحظ أن سيطرة النخب السياسية والعسكرية والمالية على الاقتصاد بكل مفاصله، صاحبه الرفاه والإسراف والبذخ والتبذير واللهو والاحتكار واللصوصية، وبالتالي ظهور فوارق اجتماعية وطبقية حادة: بين حياة القصور بمعناها الأوسع، وحياة الشعب المقهور الذي تضربه المجاعات والفقر والعوز والكوارث (ص 90). ويعزو المؤلف ذلك أيضا، إلى فساد القضاء وغياب الضوابط الدينية عند السلاطين، وانسحابهم بعد القرن الرابع إلى حياة الحريم والجواري، ودخول ثقافات وأخلاق وقيم وعادات جديدة إلى المجتمع العباسي بتأثيرات فارسية وهندية، والاتصال الوثيق بمكونين ثقافيين حضاريين همنا اليونانية والبيزنطية. 
وبالرغم من تلمس التراجع السياسي والاقتصادي في أواخر القرن الرابع الهجري، فقد حافظت «الاحتكاكات» الثقافية-العلمية على اندفاعها من خلال النقل والترجمة، عن اليونانية والسريانية والفارسية، وخصوصاً منذ عهد الرشيد، واستمرارها في عهد المأمون بوتيرة متسارعة، ليس لتلبية حاجات، وإنما في سياق النهوض والتجديد (114-125، 147-149). وهذا أثر إيجاباً على علوم اللغة والتاريخ والفلسفة والجغرافيا والملاحة البحرية والفلك، الطب والعقاقير والحساب، والرياضيات، والجبر، والطبيعة، والفلسفة، وضبط المصطلحات الدخيلة. وأدى إلى ظهور فلاسفة، كالكندي والفارابي والعالم الموسوعي في الطب أبن سينا، والرازي والبصريات، وأخيراً وليس آخراً الغزالي وقراره بتدمير فلسفة العقل التي رآها تفتقد إلى اليقين الحاسم (ص 156-175) (كتابا: مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة).
لكن الأهمية من هذه وتلك، العلوم الدينية وبخاصة الفقه ضمن مدرستي «أهل الحديث» و»أهل الرأي» (126-131)، بعدما ازدادت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تعقيداً، فضلاً عن ظهور علم الكلام والتفلسف في سياق الجدل والصراعات حول العقائد واستخدام سلطة العقل والمنطق لتقديم البراهين والأدلة أو المضادة. فيشير إلى المعتزلة التي كانت رائدة في استخدام سلطة العقل وأحكامه وقواعد المنطق والقياس عليها.
وبفلسفة تأريخية ثاقبة، يرى شيّا أن التراجع بدأ من النقطة التي انتهت إليها الحضارة العباسية في تألقها، أي في المجتمع، ليمر على الاقتصادي ويصل إلى السياسي. وبصريح العبارة يقول شيّا: «إن جميع خلفاء بني العباس، بعد المنصور، صاروا عبيد شهواتهم ورغباتهم الحسية وأشكال جديدة من اللهو المبالغ فيه.. (فيما) كان الخليفة الأمين مؤسساً لأنماط من الفجور والفسق فاقت ما سبقها...فانتهت (بذلك) ثقافة الدين، بعد أقل من مئة وخمسين عاماً كقائد روحي سماوي... جامع وموجه للمؤمنين، حكاماً وجمهوراً»... «فأصبح الكسب المادي والمالي والوصول إلى غايات وأغراض اقتصادية ومالية واجتماعية هي الهدف الذي يُسعى إليه» (ص 96-97). ويترجم في الانهيار ويتكامل مع الثورات (ص 103-105). 
أخيراً، يرى شيا أن الدولة العباسية استجابت لكل أسباب فشل الدولة الأموية: التحدي القبلي والتحدي العرقي العربي، وتحدي البادية بالخروج إلى الفضاء العربي-الإسلامي. كذلك، الانفتاح على الشعوب الأخرى، وتوفير تعايش آمن للجماعات العرقية المختلفة المنضوية تحت سلطة المركز، في بغداد. كما ونجح العباسيون ببراعة في إقامة مجتمع متعدد الاحتياجات الاقتصادية، في ظل حضور ثقافي متضخم ومتميز في المركز بغداد، وفي البلاد العربية المحيطة، كما في العالم الإسلامي. أما سبب بقاء الثقافي وعدم الانحدار مع السياسي والاقتصادي، فيعود، برأي الباحث شيّا، كما سبق الذكر، إلى أنه لا يتبع السياسي والاقتصادي والمادي... فيتمتع باستقلالية نسبية واسعة تجعله يتقدم ويزدهر. من هنا، فالدولة تسقط، بينما يبقى أثرها الحضاري-الثقافي.

(1) منشورات مركز تموز د.م، 2021
* مؤرّخ وباحث