بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

23 شباط 2021 07:00ص إيطاليا و «مثلث القوة»

حجم الخط

في أول خطاب يلقيه بصفته رئيس وزراء إيطاليا أوضح ماريو دراجي أن حكومة الوحدة الوطنية التي سيتولى تشكيلها ورئاستها لن تكتفي بالاهتمام بالسياسة الإيطالية المحلية وإصلاح السياسات، بل سيمتد اهتمامها إلى أوروبا أيضا. أشار دراجي إلى إعادة تشكيل عملية صنع السياسة الأوروبية بشكل كامل، مع ما سيصاحب ذلك من عواقب كبرى في ما يتصل بأوروبا وعلاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا والولايات المتحدة.

بصفته رئيسا للوزراء، سيكون دراجي عضوا في المجلس الأوروبي المؤثر؛ في حقيقة الأمر، ينبغي له أن يكون أحد قادة المجلس الرئيسيين، جنبا إلى جنب مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيرته الألمانية أنجيلا ميركل . و على حد تعبير يورج أسموسن، عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي عندما كان دراجي رئيسا له، قبل فترة وجيزة من تنصيب دراجي، "قد تتحول السياسة الأوروبية إلى شيء أشبه بالمثلث.

كان أسموسن محقا. ففي خطابه الأول أمام المشرعين الإيطاليين، شدد دراجي على أن إيطاليا "ستحتاج إلى بنية أفضل وتعزيز العلاقة الاستراتيجية والأساسية مع فرنسا وألمانيا". ومن الواضح أن إعادة تشكيل السياسة الأوروبية ستكون على رأس أولويات حكومته. قال دراجي: "في غياب إيطاليا، لا وجود لأوروبا".

ولا وجود لأوروبا أيضا بدون مزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي. لم يكتف دراجي باستهداف الشعبويين الإيطاليين المناهضين لأوروبا، فقال "إن دعم هذه الحكومية يعني تقاسم منظور استحالة التراجع عن اختيار اليورو"، مضيفا أنه يعني أيضا "دعم تصور الاتحاد الأوروبي المتزايد التكامل الذي يتوصل إلى الاتفاق على ميزانية عمومية مشتركة قادرة على دعم البلدان في أوقات الركود".

كما يعني صعود دراجي إلى المسرح الأوروبي إلى جانب ماكرون وميركل علاقات أوثق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لم يستطع الرئيس الأميركي جو بايدن العثور على حليف أفضل في أوروبا. تعهد دراجي بأن تكون الحكومة الإيطالية الجديدة "مؤيدة بقوة لأوروبا ومنطقة الأطلسي، بما يتماشى مع مراسي إيطاليا التاريخية". ويمثل هذا قطيعة مع السياسة الخارجية التي انتهجها رئيس الوزراء السابق جوزيبي كونتي، الذي جعل إيطاليا أكثر تقاربا مع الصين. الواقع أن دراجي يعطي التحالف عبر الأطلسي الفرصة للتعافي بعد أربع سنوات من تهور دونالد ترمب على الصعيد الاستراتيجي.

كما يتماثل تصور بايدن ودراجي لمنظمة حلف شمال الأطلسي. فكل منهما يفضل الإبقاء على القوات الأميركية في أوروبا، وكل منهما يريد مساهمة نقدية ألمانية أكبر في ميزانية الدفاع المشترك. والأمر الأكثر جوهرية في هذا الصدد هو أنهما ينظران إلى الولايات المتحدة على أنها الحامي الأساسي لاستقلال أوروبا.

تتسم نزعة دراجي الأطلسية ومشاعره المؤيدة لأميركا بالعمق الشديد إلى الحد الذي يجعله من غير المحتمل أن يدعم الحملة الحالية ــ بقيادة ماكرون، إلى جانب قدر كبير من الدعم النخبوي ــ التي تطالب الاتحاد الأوروبي بالتمسك بقدر أعظم من "الاستقلال الاستراتيجي". ولكن في ظل اتفاقه التام مع ماكرون في ما يتصل بالعديد من الأمور الأخرى، فمن المرجح أن يسعى دراجي إلى تهدئة حدة الخلاف بينهما بشأن هذه القضية الشائكة.

لكن موقف دراجي بشأن الأمن الأوروبي ثابت ــ ففي المستقبل المنظور، لا يوجد بديل للقوات الأميركية في أوروبا. مع تلاشي تأثير ترمب في الولايات المتحدة، سيتلاشى أيضا القلق في أوروبا بشأن جدارة الضمان الأمني الأميركي بالثقة، وهذا كفيل بتخفيف الشعور بالحاجة إلى قدر أعظم من "الاستقلال الاستراتيجي".

يجب أن يكون إيمان دراجي القوي بالنزعة الأطلسية سببا في تعزيز إيمان المجلس الأوروبي بأسره بها، حيث يعمل بشكل خاص كقوة موازنة وملطفة تجاه ميركل، التي تضع في بعض الأحيان المصالح التجارية الألمانية مع روسيا وغيرها من القوى قبل العلاقات عبر الأطلسي والأمن الأوروبي. وكلما ازداد نفوذ دراجي في مثلث القوى الأوروبي ــ ويبدو أن ولايته كرئيس للبنك المركزي الأوروبي تمنحه قدرا كبيرا من النفوذ تجاه ميركل ــ كلما كان الاتحاد الأوروبي أكثر صرامة في التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، فضلا عن الحكام المستبدين المحليين في أوروبا من أمثال فيكتور أوربان في المجر، وياروسواف كاتشينسكي في بولندا.

في النهاية، لا تعتمد مكانة دراجي فقط على سمعته في الأسواق المالية، حيث يُـنـظَـر إليه على أنه رجل قادر على خفض تكاليف الاقتراض الإيطالية وتعزيز أسعار الأسهم. وهو دارس للتاريخ يتمتع بقيم ديمقراطية قوية وحس استراتيجي من النوع الذي تحتاج إليه أوروبا بشدة حتى يتسنى لها أن تتعامل بفعالية مع بوتن ورفاقه الإيديولوجيين في أوروبا الوسطى.

من الواضح أن نزوع دراجي إلى تأييد الشراكة الأطلسية لا يتعارض مع آفاق أوروبا الأكثر وحدة. فعندما كان رئيسا للبنك المركزي الأوروبي، لم يبادر إلى إنقاذ اليورو لمجرد الحفاظ على عضوية إيطاليا في العملة الموحدة، كما يزعم منتقدوه في الشمال؛ بل فعل ذلك لإنقاذ المشروع الأوروبي ذاته. على نحو مماثل، لم يقدم دراجي التيسير الكمي لإنقاذ السندات الإيطالية ببساطة؛ بل فعل ذلك لتعزيز التكامل بين الشمال والجنوب.

الآن يدافع دراجي عن صندوق تعافي الاتحاد الأوروبي، ليس فقط لمساعدة إيطاليا وغيرها من بلدان الجنوب على التغلب على العواقب الاقتصادية المترتبة على الجائحة، بل وأيضا لإدامة الجهد المشترك الأكثر جرأة حتى الآن لدمج شمال أوروبا وجنوبها. وقد تكون الخطوة التالية في هذه العملية تقديم سندات يورو حقيقية. وقد يكون دعم دراجي لأداة الدين المشتركة هذه حاسما.

من المرجح أن يشغل دراجي منصب رئيس وزراء إيطاليا حتى عام 2023، عندما يحين موعد الانتخابات الجديدة. لكنه ربما يقرر عدم الاستمرار في المنصب بعد مايو/أيار 2022، إذا لم يخدم تشارلز ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي الحالي، لفترة ولاية ثانية. ونظرا لتركيز دراجي على مستقبل أوروبا، فسوف يكون من الصعب عليه تجاهل الفرصة للاستمرار في عمله في هذا المنصب. والواقع أن الرأي الشائع بأن دراجي يعتزم خوض المسابقة الرئاسية في إيطاليا لا يخلو من مبالغة. ذلك أن منصب رئيس إيطاليا يجعله بلا سلطة أو صلاحيات.

على الرغم من أن اقتصاد إيطاليا قد يكون نقطة ضعف دراجي إذا اضطر إلى إنفاق كل وقته ورأسماله السياسي في القتال من أجل الإصلاحات الضرورية، فإن التحدي المحلي والأوروبي الذي ينتظره مترابط في نهاية المطاف. وحقيقة أنه سيحصل على أكثر من 200 مليار يورو (243 مليار دولار أميركي) من أموال صندوق التعافي لتوزيعها على الفصائل المحلية المختلفة هي التي تخفف من الخطر المتمثل في احتمال تسبب الاقتصاد الإيطالي في هدم وتخريب كل جهوده.

المصدر: project syndicate

ترجمة: إبراهيم محمد علي