بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

7 أيار 2019 09:46ص الصحافة الحرة وهدوء أعصاب الطبقة السياسية

حجم الخط

نيويورك ــ في رحلة إلى إثيوبيا في التسعينيات، قابلت رئيس الوزراء ميليس زيناوي لمحاولة إقناعه بوقف سجن الصحفيين. فمنذ أطاح مقاتلو ميليس بالدكتاتورية القمعية المدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي قبل ذلك الوقت ببضع سنوات، كان هناك انفجار في عدد الصحف المتحمسة وغير الدقيقة بشكل صارخ في بعض الأحيان، وكان الكثير منها يهاجم ميليس. لذلك قام بحملة قمع، وفرض قوانين تجرم ما وصفه بأنه "إهانات" للحكومة، وتعرض الصحفيون للغرامات والسجن بسبب عدم دقة التقارير. وسرعان ما أصبحت إثيوبيا واحدة من أكبر سجون الصحفيين في العالم.

الآن، ومع مرور عام واحد فقط على وجود رئيس وزراء إصلاحي جديد، أبي أحمد، في منصبه، حققت إثيوبيا الكثير من التقدم في إطلاق سراح الصحفيين المسجونين ورفع الضوابط الصحفية لدرجة أنها تستضيف اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا العام.

لكن لا تبتهج كثيرا. فما زال بعض العاملين في مجال الصحافة المحرر حديثا ينشرون قصصا غير دقيقة أحيانا - تثير العداوة العرقية والقبلية وتهاجم أبي أحمد. ومع إجراء أول انتخابات حرة منذ 15 عاما في العام المقبل، فهو في نفس الموقف الذي كان فيه ميليس، وهو بصدد النظر في إعادة بعض القيود الصحفية التي ألغاها.

قبل أن يشرع في ذلك، حري به إلقاء نظرة طويلة وناقدة على حملة ميليس والدرس الذي تقدمه: لا يمكن كبح الصحفيين، ولا تحقق السيطرة عليهم أي شيء على المدى الطويل. في الواقع، إنها لا تؤدي إلا إلى تأخير تطور صحافة أكثر مهنية.

قدم ميليس تفسيرا بسيطا لتصرفات حكومته، حين قال لي إن "الصحفيين هنا ليسوا محترفين مثل نظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. إنهم لا يعرفون كيف ينقلون الأخبار بدقة. ويجب أن نضع لهم إرشادات حتى يتعلموا كيفية القيام بأعمالهم". ولو كان ميليس حيا بيننا اليوم، فمن المحتمل أنه لن يكف عن إدانة "الأخبار المزيفة".

على مدار أكثر من ثلاثة عقود من القتال من أجل صحافة حرة في جميع أنحاء العالم، وبصفتي أحد أوائل رؤساء لجنة حماية الصحفيين، سمعت حججا مثل التي يستخدمها ميليس مرات عديدة. حيث يصر المسؤولون في الديمقراطيات الناشئة في كثير من الأحيان على ضرورة تقييد الصحفيين من قبل الدولة، حتى يصبحوا قادرين على القيام بعملهم بمسؤولية. لكن بدلا من تسريع عملية تطوير صحافة حرة ذات مصداقية، فإن هذا النهج يعوقها.

بعد لقائي مع ميليس، بدأت في البحث عن أدلة تاريخية على ادعائه بأن نقص كفاءة الصحافة المهنية يبرر قمع الصحافة؛ بهذه الطريقة، سأكون قادرا على مواجهة حجته في رحلتي التالية. ووجدت سابقة واحدة في المراحل الأولى من تاريخ الولايات المتحدة. في الواقع، كانت كلمات ميليس تشبه الحجج التي قدمها الرئيس الأميركي جون آدامز في القرن الثامن عشر بشكل مخيف، حيث شجب الصحافة الحرة والمتحمسة التي نشرت الانتقادات - الدقيقة وغير الدقيقة على حد سواء - الموجهة لسياسيي البلد الجديد.

نجح آدامز مؤقتا في خنق الصحفيين في عام 1798 بحجة أن الصحافة غير المقيدة تهدد مستقبل أميركا، عندما وقع على قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة، التي سمحت بسجن وتغريم الصحفيين الذين "يكتبون أو يطبعون أو يرددون أو ينشرون أي كتابات كاذبة أو فاضحة أو ضارة" ضد الحكومة. وسجن في أعقاب ذلك عشرين محررا صحفيا.

لكن توماس جيفرسون وحزب الجمهوريين الديمقراطيين قاموا بالتصدي للاتحاديين، سواء في الكونجرس أو المحاكم. ولحسن حظ الصحفيين الأميركيين، تم انتخاب جيفرسون رئيسا في عام 1800. في غضون عامين، انتهت صلاحية بعض قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة وتم إلغاء البعض الآخر. وقد فتح ذلك الطريق أمام الصحافة الأميركية لتجربة، وبالتالي تطوير - على مدى أكثر من قرنين من الزمن - ثقافة تقوم على إعداد التقارير بشكل عميق ودقيق، بما في ذلك التحقق المستمر من الحقائق.

لا يوجد طريق مختصر لإقامة صحافة حرة نابضة بالحياة. يتطلب الأمر فترة طويلة من التجربة والخطأ حتى تتطور قواعد ومؤسسات الصحافة المهنية. ويجب أن يثق السياسيون بهذه العملية - وأن يحافظوا على هدوئهم تجاه الانتقادات. فعلى الرغم من أن القوانين القمعية تجاه الإعلام قد تكون في صالح القادة على المدى القصير، إلا أنها تعيق تطور صحافة البلاد على المدى البعيد.

هناك أدلة كمية على هذا التأثير. عندما بدأت الثورة الفرنسية في عام 1789، رفعت القيود المفروضة على الصحافة. بعد مرور أربع سنوات، كان هناك أكثر من 400 صحيفة في البلاد، بما في ذلك 150 في باريس وحدها. وبحلول عام 1799، ارتفع هذا الرقم إلى 1,300 صحيفة في جميع أنحاء البلاد. وهذا يعني 1,300 مكان لتعليم الطامحين إلى العمل في الصحافة وصقل مهاراتهم.

لكن الثورة اتخذت منعطفا قمعيا. فانخفض عدد الصحف في باريس إلى 72 بحلول الوقت الذي تولى فيه نابليون بونابرت السلطة في عام 1799. وسرعان ما خفض نابليون هذا العدد إلى 13، ثم إلى أربع في عام 1811.

وبالمثل، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ازدهرت وسائل الإعلام بجميع أشكالها. لكن بعض الدول التي استقلت حديثا تبنت فكرة أن هناك حاجة إلى "إرشادات" لتنظيم وسائل الإعلام. وتم سن العديد من القوانين التي قُدمت على أنها تضمن حرية الصحافة، لكنها استخدمت لمعاقبة الصحفيين بسبب تقاريرهم العدوانية والنقدية. كما تم تجريم التشهير. وفرضت غرامات هائلة على المطبوعات والمذيعين والمدونين المستقلين.

كما عززت الصين وتركيا - وكلاهما من كبار الدول التي تسجن الصحفيين - من حملات القمع في السنوات الأخيرة. وفي الشهر الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوانين جديدة تسمح بمعاقبة الأفراد ووسائل الإعلام الإلكترونية على نشر ما يدعى بالأخبار والمعلومات المزيفة التي "تقلل من احترام" الدولة.

يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب السير في نفس الاتجاه. حيث يردد وصفه المستمر للصحفيين بأنهم "كاذبين" و"أعداء الشعب" صدى تسمية النازيين المفضلة لوسائل الإعلام: Lügenpresse(الصحافة الكاذبة).

حتى في الاتحاد الأوروبي، ما زال الصحفيون يتعرضون للسجن بتهم التشهير الجنائي وإهانة الحكومة، وفقا لدراسة أجراها معهد الصحافة الدولي عام 2014. حيث وجد المعهد أن "الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي تبقي على أحكام التشهير الجنائي التي تنص على عقوبة السجن كعقوبة محتملة. ولا تزال الملاحقات القضائية مستمرة ولا يزال الصحفيون عرضة للحكم عليهم بعقوبات جنائية".

كان السماح للصحافة بالتجربة وارتكاب الأخطاء والتعلم منها عاملا حاسما في نجاح الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم. ولذا يجب على الحكومات والمجتمعات المدنية أن تكون حريصة على دعم الصحافة الحرة، حتى - أو لا سيما - إذا كانت في طور النمو.

المصدر: PS، موقع "اللواء"