بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

11 نيسان 2019 12:01م حروب التجارة الأميركية وعبثيتها الخطيرة

حجم الخط

نيويورك ــ كان دون كيشوت يحارب طواحين الهواء. والآن يحارب الرئيس الأميركي دونالد ترمب العجز التجاري. وكل من المعركتين منافية للعقل ولا تخلو من سخف واضح، لكن معارك دون كيشوت كانت على الأقل مشوبة بالمثالية. أما معارك ترمب فهي مشربة بجهل مستعر.

في الأسبوع الماضي، أُعلِن أن عجز الولايات المتحدة الدولي في مجال السلع والخدمات ارتفع إلى 621 مليار دولار، على الرغم من الوعد الذي بذله ترمب بأن السياسات التجارية الصارمة تجاه كندا والمكسيك وأوروبا والصين من شأنها أن تخفض العجز بشكل كبير. يعتقد ترمب أن العجز التجاري الأميركي يعكس ممارسات غير عادلة من قِبَل نظراء أميركا. وقد تعهد ترمب بإنهاء هذه الممارسات الظالمة والتفاوض على اتفاقيات تجارية أكثر عدالة مع هذه البلدان.

بيد أن العجز التجاري الأميركي ليس مؤشرا لممارسات غير عادلة من قِبَل دول أخرى، ولن تفضي مفاوضات ترمب إلى عكس اتجاه نمو العجز. بل يشكل العجز مقياسا لاختلال توازن الاقتصاد الكلي، والذي أدت سياسات ترمب ــ وخاصة التخفيضات الضريبية في عام 2017 ــ إلى تفاقمه. وكان بوسع أي شخص وصل إلى الأسبوع الثاني من دراسته الجامعية للاقتصاد الكلي الدولي أن يتنبأ باستمرار العجز ــ واتساعه.

لنتأمل هنا حالة الفرد الذي يكسب من الدخل (X) وينفق (Y). إذا اعتبرنا أن أرباح ذلك الفرد هي "صادراته" من السلع والخدمات، وأن إنفاقه يمثل "وارداته" من السلع والخدمات، فسوف يتضح لنا على الفور أنه يدير فائضا من الصادرات على الواردات إذا كان دخله أكبر من إنفاقه. أما العجز فيعني أنه ينفق أكثر مما يكسب.

ويصدق نفس الأمر عندما نضيف الدخل والإنفاق عبر الاقتصاد، بما في ذلك دخل وإنفاق القطاعين الخاص والعام. فأي اقتصاد يدير فائضا على حسابه الجاري (المقياس الأوسع لرصيده الدولي) عندما يتجاوز الدخل الوطني الإجمالي الإنفاق المحلي، في حين يدير عجزا عندما يتجاوز الإنفاق المحلي الدخل الوطني الإجمالي. ويستخدم أهل الاقتصاد مصطلح "الاستيعاب المحلي" لإجمالي الإنفاق، الذي يلخص الاستهلاك المحلي والإنفاق على الاستثمار المحلي. يمكننا إذن تعريف الحساب الجاري على أنه رصيد حساب الدخل الوطني الإجمالي والاستيعاب المحلي .

من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن فائض الدخل على الاستهلاك هو ذاته كالمدخرات المحلية. وعلى هذا فإن فائض الدخل على الاستيعاب ربما يمكن تحديده بالتساوي على انه الفائض في الادخار المحلي على الاستثمار المحلي. فعندما تكون مدخرات أي اقتصاد أكثر من استثماراته، فإنه بذلك يدير فائضا في الحساب الجاري؛ وعندما يدخر أقل مما يستثمر فإنه بهذا يدير عجزا في الحساب الجاري.

لاحظ أن السياسة التجارية غائبة تماما عن المعادلة بالكامل. فالعجز عل الحساب الجاري مقياس بحت للاقتصاد الكلي: النقص في الادخار نسبة إلى الاستثمار. ولا يشكل العجز الخارجي الأميركي بأي سبيل أو هيئة مؤشرا لممارسات تجارية غير عادلة من قِبَل كندا والمكسيك، أو الاتحاد الأوروبي، أو الصين.

يتصور ترمب أن هذا العجز يشير إلى ممارسات غير عادلة بسبب جهله. ويرجع الموقع المركزي الذي يحتله جهل ترمب في الخطاب العام في الولايات المتحدة في الأساس إلى جُبن مستشاري ترمب (الذين لا أُنكِر أنهم يفقدون وظائفهم إذا خالفوه)، والحزب الجمهوري، والمسؤولين التنفيذيين الأميركيين (الذين يأبون رفض هراء ترمب).

انتقلت الولايات المتحدة من فائض الحساب الجاري إلى العجز المزمن بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، وهو ما يرجع في الأساس إلى سلسلة من التخفيضات الضريبية في عهد الرؤساء رونالد ريجان، ثم جورج دبليو بوش، وأخيرا ترمب. الواقع أن التخفيضات الضريبية التي لا يقابلها خفض الاستهلاك الحكومي تفضي إلى تقليص الادخار الحكومي. وربما يمكن التعويض عن انخفاض الادخار الحكومي جزئيا بزيادة المدخرات الخاصة ــ على سبيل المثال، عندما ترى الشركات والأسر أن التخفيضات الضريبية مؤقتة. ومع ذلك فإن مثل هذا التعويض لن يكون مكتملا في عموم الأمر. وعلى هذا فإن التخفيضات الضريبية تميل إلى تقليص الادخار المحلي، وهو ما يدفع بدوره الحساب الجاري إلى المزيد من العجز.

تشير البيانات من بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس إلى أن متوسط الادخار الحكومي في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين كان 0.1% بالسالب من الدخل الوطني الإجمالي، في حين بلغ متوسط الادخار الخاص 22.2% من الدخل الوطني الإجمالي. وبالتالي، كان الادخار المحلي 22.1% من الدخل الوطني الإجمالي. في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2018، كانت مدخرات الحكومة الأميركية 3.1% بالسالب من الدخل الوطني الإجمالي، في حين كانت المدخرات الخاصة 21.8% من الدخل الوطني الإجمالي، أي أن المدخرات المحلية كانت 18.7% من الدخل الوطني الإجمالي. وبدوره، تحول ميزان الحساب الجاري الأميركي من فائض صغير بلغ 0.2% من الدخل الوطني الإجمالي في سبعينيات القرن العشرين إلى عجز بلغ 2.4% من الدخل الوطني الإجمالي في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2018.

ومن المرجح نتيجة للتخفيضات الضريبية الأميركية في عام 2017 أن ينخفض الادخار الحكومي بنحو 1% من الدخل الوطني الإجمالي. وربما يرتفع الادخار الخاص بنحو نصف هذه النسبة، تحسبا لزيادات ضريبية مقبلة، مع تسبب زيادة هامشية في استثمارات الشركات وانخفاض الاستثمار في الإسكان في إحداث تأثير إجمالي متواضع، ربما يعادل نحو 0.5% من الدخل الوطني الإجمالي.

وبالتالي فإن سياسة ترمب الضريبية تشكل التفسير الرئيسي للارتفاع المتواضع في اختلال التوازن الدولي. ومرة أخرى، لا يوجد ارتباط بين السياسة التجارية وهذه النتيجة.

ولكن من المؤكد أن السياسة التجارية لا تنفصل عن الاقتصاد العالمي. بل الأمر على العكس من ذلك. ففي حين يطارد ترمب الوهم، أصبح الاقتصاد العالمي أقل استقرارا ، وساءت العلاقات بين الولايات المتحدة ومعظم دول العالم بشكل ملموس. ومن الواضح أن ترمب ذاته أصبح موضع ازدراء في أغلب الأماكن، و في مختلف أنحاء العالم تدنى احترام زعامة الولايات المتحدة .

لا شك أن سياسات ترمب التجارية لا تسعى إلى تحسين التوازن الخارجي لأميركا فحسب، بل إنها تمثل أيضا محاولة مضللة لاحتواء الصين بل وحتى إضعاف أوروبا. ويعكس هذا الهدف نظرة المحافظين الجدد للعالَم حيث يعكس الأمن الوطني صراعا محصلته صِفر بين الدول القومية، وحيث يُنظَر إلى النجاحات الاقتصادية التي يحققها منافسو أميركا على أنها تهديدات للسيادة العالمية الأميركية، وبالتالي الأمن الأميركي.

تعكس هذه الآراء خيوط العداء وجنون الشك والعظمة التي كانت لفترة طويلة تمثل سِمة من سمات السياسة الأميركية. وهي تشكل دعوة لصراع دولي لا ينتهي، ويطلق لها العنان ترمب وأعوانه الذين يعملون على تمكينه. في هذا السياق، تكاد تكون حروب ترمب التجارية المضللة القائمة على الوهم متوقعة تماما، كمثل اختلالات توازن الاقتصاد الكلي التي فشل ترمب وأتباعه في علاجها على نحو مذهل.

المصدر: PS، موقع "اللواء"