بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

15 كانون الثاني 2020 12:36م هاوية ترامب الإيرانية

حجم الخط

مدريد ــ بدأ العام الجديد بقرار آخر أخرق في عالَم السياسة الخارجية اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب. كان اغتيال الجنرال قاسم سليماني، الذي تولى قيادة عمليات الحرس الثوري الإيراني الخارجية، تحركا متهورا، واستفزازيا، وقصير النظر. لا شك أن تأثير سليماني على الشرق الأوسط كان خبيثا للغاية. لكنه كان أيضا قائدا لفرع مسلح من الدولة الإيرانية وكان يتمتع بشعبية شخصية واضحة في بلده، مهما تظاهر ترمب بخلاف ذلك .

مرة أخرى، تتصرف الولايات المتحدة بتجاوز مفرط و تضع سابقة خطيرة يستطيع خصومها استخدامها كذريعة لتنفيذ عمليات مماثلة. فبعد الهجوم على سليماني وقتله، ذهب ترمب إلى حد تهديد إيران مرارا وتكرارا بتدمير بعض المواقع الثقافية الثمينة في البلاد، وهو التصرف الذي كان ليشكل جريمة حرب. ورغم أن ترمب أعاد النظر في هذا الأمر كما يبدو، فإن اندفاعه المتهور يسلط الضوء على الافتقار إلى التخطيط المناسب. كان اغتيال سليماني تحركا لا يخلو من إثارة إعلامية ، وربما كان المقصود منه في الأساس الاستهلاك المحلي. ومع ذلك، هل يكون فعّالا في الأمد البعيد؟

من الواضح أن الإجابة تتوقف على أهداف ترمب في ما يتصل بإيران. فقد زعمت إدارته أن تدخل الرئيس المتطرف العنيف سيكون له تأثير رادع على النظام الإيراني، الذي كان سليماني يمثل له أصلا لا غنى عنه على الإطلاق .

الواقع أن هذا الافتراض مشكوك في صحته. فرغم أن انتقام إيران ــ في هيئة هجمات صاروخية ضد قاعدتين عراقيتين كانت كل منهما تؤوي قوات أميركية ــ كان مخففا نسبيا حتى الآن، فإن النظام لن يتخلى عن أسلحته. كما لا يمكن افتراض أن خسارة سليماني، على الرغم من أهميته، قد تشكل عقبة لا يمكن تجاوزها بالنسبة للنظام، الذي عين بالفعل نائب سليماني المؤتمن خليفة له.

يتلخص أساس المشكلة في ما يتصل بالولايات المتحدة في غياب أي أهداف واضحة في التعامل مع إيران، وبالتالي لا توجد استراتيجية محددة بوضوح. في الشرق الأوسط، كان من الواجب أن تكون الولايات المتحدة تعلمت الآن أن هذه وصفة للكارثة. إن التوترات اليوم لا تعني أن ترمب أو قادة إيران يسعون إلى الحرب. ومع ذلك، في العديد من المناسبات، انزلقت دول إلى صراعات غير مرغوب فيها، وخاصة عندما تتسبب الثقة المفرطة في جعلها متهورة. ومع تقلباته الجامحة، تمكن ترمب ليس فقط من إجبار إيران على التراجع إلى الزاوية (وهو ما قد يدفع قادتها إلى تبني موقف أكثر عدوانية)، بل ووضع نفسه في الزاوية هو أيضا.

في غياب خطة، ليس من المستغرب أن تتناقض إدارته مع ذاتها على نحو مستمر. فعندما بدأت إيران تستشعر تأثيرات موجة من الاحتجاجات الداخلية التي جرى قمعها بوحشية، خففت الولايات المتحدة بفعلتها من الضغوط المفروضة على القيادة الإيرانية. و الحشود الضخمة التي خرجت للحداد على سليماني لا تكذب. ومع اقتراب الانتخابات التشريعية في إيران بعد بضعة أسابيع، قدمت الولايات المتحدة للعناصر الأكثر تحفظا ومعاداة لأميركا في البلاد فرصة ذهبية.

ولكن الآن، عادت الأضواء مرة أخرى إلى النظام الإيراني، نظرا لأخطائه. فبعد اعتراف قادة إيران ــ في أعقاب ثلاثة أيام من الإنكار الرسمي ــ بأن صواريخ إيرانية أسقطت بطريق الخطأ طائرة الركاب المدنية الأوكرانية، مما أسفر عن مقتل كل من كان على متنها (176 شخصا)، أصبح النظام مرة أخرى هدفا للغضب الشعبي. وتخدم الطريقة التي انتهى إليها هذا الموقف كتذكرة للمواطنين الإيرانيين بمتاعبهم اليومية، والتي تعكس تأثير الإهمال على المستويين المحلي والخارجي.

الآن، بدأ صدى الاحتجاجات المناهضة للنظام التي تجتاح إيران يتردد في دول أخرى في الشرق الأوسط حيث تتمتع إيران بنفوذ ملحوظ. ففي الأشهر الأخيرة، تغلب كل من اللبنانيين والعراقيين على الخلافات الدينية في كل من البلدين، وثاروا ضد التدخل الإيراني ، الذي كان قدرا كبيرا منه بتدبير من سليماني ذاته. لكن ترمب تجاهل مقولة نابليون الشهيرة: "لا تقاطع عدوك أبدا وهو يرتبك خطأ". والآن يطالب البرلمان العراقي (وإن كان ذلك بصورة رمزية) بسحب القوات الأميركية المتمركزة في البلاد ــ وهو ما سيصب في صالح إيران . كانت استجابة إدارة ترمب فوضوية، عندما أعلنت على نحو غير صحيح سحب قواتها ثم أنكرت أن الانسحاب قد يكون وشيكا.

مع ذلك، لا ينبغي لنا أن نستبعد احتمال قيام ترمب بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، حتى على الرغم من أن الانسحاب من المرجح أن يكون مهينا. في الوقت الحالي، قررت قوات حلف شمال الأطلسي التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية تعليق عملياتها ، كما بدأ بعض حلفاء الولايات المتحدة يجلون قواتهم من العراق.

لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة تغادر الشرق الأوسط: بل على العكس من ذلك، ازداد عدد القوات الأميركية في المنطقة بنحو 15 ألف جندي على مدار الأشهر الستة الأخيرة. ورغم أن اعتماد الولايات المتحدة على موارد الطاقة القادمة من الشرق الأوسط ربما تضاءل، فإن التمحور تجاه آسيا، الذي أعلنته إدارة أوباما لم يحدث بعد. ومن الواضح أن اندلاع صراع أكبر مع إيران من شأنه أن يعوق الجهود الأميركية الرامية إلى احتواء الصين، المنافس العالمي الرئيسي لأميركا.

الآن يتعين علينا أن نضيف إلى القائمة الطويلة التي تضم الحماقات التي ارتكبتها الولايات المتحدة الحوافز الضارة التي أبرزها ترمب بأحدث ضربة وجهها إلى إيران، والتي أثارت سؤلا غير مريح: فهل كانت الولايات المتحدة لتتصرف بنفس الطريقة تجاه كوريا الشمالية المسلحة نوويا؟ لقد التزمت إيران حرفيا بالاتفاق النووي لعام 2015 الذي وقعت عليه القوى العالمية الرئيسية ــ والمعروف رسميا بخطة العمل الشاملة المشتركة ــ واستمرت في الوفاء بشروطه طوال عام كامل بعد انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق. ومع ذلك، ففي حين عقد ترمب اجتماعات ودية مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، فإن إدارته أخضعت إيران لعقوبات اقتصادية ساحقة ــ وهي المعاملة التي من غير المرجح أن تشجع نظام كيم على تعليق مستقبله على نزع السلاح النووي.

على الرغم من أن إيران أعلنت أنها ستتوقف الآن عن الالتزام بالقيود التي تفرضها خطة العمل الشاملة المشتركة على برنامجها النووي، فإنها لم تغلق الباب أمام إمكانية إنقاذ الاتفاق. علاوة على ذلك، يبدو أن التوترات بين الولايات المتحدة وإيران تضاءلت بعض الشيء في الأيام الأخيرة. لكن هذا قد يكون مجرد سراب: فقد أضاف إسقاط الطائرة الأوكرانية عنصرا جديدا إلى المعادلة، والذي يبدو أن إدارة ترمب حريصة للغاية على استغلاله . علاوة على ذلك، لم يتخل ترمب عن مطالباته التي لا تطاق في حين يواصل الضغط على الأطراف الأخرى الموقعة على خطة العمل الشاملة المشتركة لحملها على التخلي عن الاتفاق.

في نهاية المطاف، سوف تضطر الولايات المتحدة إلى الاعتراف بحقيقة لا جدال فيها: في المواقف الحرجة مثل موقفنا الحالي، الذي لم تدع إليه أي ضرورة، لا تشكل الدبلوماسية خيارا، بل تصبح التزاما. ولتجنب الكارثة، وهو ما يجب أن يكون الأولوية القصوى لجميع الأطراف المعنية، فإن هذا بلا أدنى الشك هو الطريق الواجب اتباعه.

المصدر:Project Syndicate