بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 حزيران 2023 12:00ص الحرب في السودان.. أبعد من صراع البرهان - حميدتي

حجم الخط
إن مشهد التدمير الذي أصاب منشآت مطار الخرطوم من جراء الاشتباكات، تقشعر له الأبدان، علماً انه مرفق مدني خدماتي كان يفترض أن يتم تحييده عن مسرح العمليات العسكرية. وما أصاب مطار الخرطوم، أصاب مرافق أخرى وبعضها مدني تناط به إدارة شؤون الناس. وإذا كان الإعلام المرئي والمسموع لم يسلّط الضوء كفاية على حجم الدمار الذي أصاب المرافق العامة والخدماتية باستثناء ما أصاب مطار الخرطوم، وهي تكتفي ببث الأشرطة التي توزع من قبل الطرفين المتصادمين، وكل منهما يبرز ما حققه من «انتصارات»، فإن التغطية كانت مختلفة لعمليات إخلاء الرعايا الأجانب، والتي ولدت انطباعاً لمن يتعمّق في قراءة أبعاد ما يجري في السودان بعد انفجار الوضع، بأن الأمور ذاهبة الى مزيد من التصعيد والتفاقم على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
ان ظاهر الأمر يفضي الى القول ان سبب انفجار الوضع العسكري يعود الى الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح، حول موقع ودور «قوات الدعم السريع»، في الهياكل الأمنية والعسكرية لقوات الجيش.
فهذه القوات التي هي استمرار لتشكيل ميليشيا «الجنجويد» ارتبطت بداية بمديرية المخابرات الى ان أصدر عمر البشير قانوناً خاصاً بها، ربطها بموجبه برئاسة الجمهورية، وكان تعدادها بحدود الثلاثين ألفاً فأصبحت بعد تشريع وضعها بحدود المئة ألف. وهي تغطي بانتشارها غالبية الولايات ولها ثقل خاص في الخرطوم وموطن نشأتها في دارفور. وتمويلها الرئيسي يتأتى من الاستثمار في مناجم الذهب ومواد أولية فضلاً عن سيطرتها على كثير من المعابر الحدودية مع دول الجوار.
كما ان ظاهر الحال، يفيد ان البرهان لم يكن يسعى لحل «قوات الدعم السريع» وإنما تعديل مركزها القانوني بحيث ترتبط بقيادة الجيش وتخضع لأمرته وفق هيكلة جديدة. وفي المقابل فإن حميدتي لم يكن يرغب بهذا الحل، وحاول التملص من الالتزام به، عبر الدعوة لإطالة أمد الفترة الزمنية اللازمة لذلك.
قبل انفجار الوضع العسكري كان الطرفان يقدّمان نفسيهما كفريق واحد تحت مسمّى «المكوّن العسكري» في المجلس السيادي، الذي أنيطت به إدارة المرحلة الانتقالية بعد توقيع الوثيقة الدستورية مع المكوّن المدني الذي شكّلت قوى الحرية والتغيير ركيزته الأساسية.
ودائما حسب ظاهر الحال، فإن الرئيس ونائبه كانا يبدوان في أعلى درجات الانسجام في المواقف حيال التعامل مع الشريك المدني في المجلس السيادي، وحيال بعض قنوات الاتصال مع الخارج وخاصة تلك المتعلقة بالعلاقات مع الكيان الصهيوني.
لكن ما هو السبب الأساسي الذي دفع الوضع الى الانفجار؟..
هل هو الخلاف على تحديد المركز القانوني «للدعم السريع» في التشكيلات العسكرية والخشية من وضع الدولة ليدها على استثماراتها إذا ما دمجت بقوات الجيش، وخاصة الاستثمار في مناجم الذهب والسودان يعتبر ثالث دولة منتجة في أفريقيا لهذا المعدن الثمين الذي تتهافت عليه المافيات الدولية والدول كملاذٍ آمنٍ في مواجهة الاهتزازات التي تتعرض لها ما يسمى بالعملات الصعبة والدولار على رأسها، أو ثمة أسباب أخرى؟
إننا لا نسقط الأسباب المرتبطة بتحديد المركز القانوني «لقوات الدعم السريع» والخلاف على آليات عملها واستثماراتها، من أن يكون سبباً مباشراً لإطلاق شرارة القتال، وخاصة ان الإجراء فيما لو قيض له النفاذ، لكان سيؤدي الى إضعاف الموقع السياسي لحميدتي في السلطة من ناحية، والى خسارة امتيازات الاستثمار في مناجم الذهب وما تدرّه من أموال على المنتفعين منه داخلياً وخارجياً من ناحية أخرى.
لكن قراءة ما جرى في السودان بعد انفجار الوضع العسكري وتحديد أسبابه الجوهرية، لا يستقيم النظر إليه إلا إذا وضع في سياق المسار العام الذي ضبط الإيقاع السياسي منذ انطلاق ثورة ديسمبر من العام ٢٠١٨ بشكل خاص، والتطورات التي شهدها الوطن العربي منذ غزو العراق واحتلاله بشكل عام.
في ما يتعلق بالخاص السوداني، فإن المعطيات الأولية التي أفرزتها الانتفاضة الشعبية، دللت على أن الأوضاع السياسية تسير باتجاه تحقيق نتائج إيجابية لجهة التحولات السياسية الداخلية، للانتقال بالسودان من نظام التمكين وسطوة الدولة الأمنية، الى رحاب الدولة المدنية عبر عملية سياسية تحكمها قواعد التحوّل الوطني الديموقراطي وتحترم فيها الحريات العامة والعدالة الاجتماعية في ظل نظام سياسي يقوم على أساس الفصل بين السلطات، وتشكيل هياكله المؤسساتية استناداً الى الآليات التي يعبّر الشعب من خلالها عن إرادته في إدارة شؤونه الداخلية وتحديد خياراته في العلاقات مع الخارج قومياً كان أو إقليمياً أو دولياً.
ومن تابع عن كثب تطوّر العلاقة بين المكونين المدني والعسكري الشريكين في إدارة الوضع السياسي خلال المرحلة الانتقالية، لم يكن يحتاج الى كثير عناء، ليكتشف ان العلاقات بين المكونين لم تكن على درجة كافية من التوافق والانسجام بعدما برزت الافتراقات بينهما حيال العديد من الملفات، وأكثرها وضوحاً تشكيل هياكل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وملف إدارة العلاقة مع صندوق النقد الدولي والحركات المسلحة في الولايات، كما عملية تهريب التطبيع مع «إسرائيل» التي كانت خطوتها العلنية الأولى في لقاء البرهان ونتنياهو في أوغندا.
إن المرحلة الانتقالية وان شابتها علاقات ملتبسة، إلّا انها لم تصل الى حد تفجير العملية السياسية، ومرد ذلك، ان التوازن السلبي الذي كان قائماً بين الطرفين، شكّل ضابطاً لإيقاع العلاقة بينهما، الى أن اقترب الموعد الذي يفترض فيه أن يتخلى المكوّن العسكري عن رئاسة المجلس السيادي عملاً بما ما تم الاتفاق عليه في الوثيقة الدستورية، فكان أن ارتد «العسكر» على الاتفاق عبر انقلاب موصوف في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١.
لقد أماط الانقلاب النقاب عن حقيقتين:
الأولى، أن المكوّن العسكري كان يمارس مع المكوّن المدني أسلوب التقية طيلة فترة التشارك في الحكم.
والثاني، ان إيصال العملية السياسية التي انطلقت على أساس الوثيقة الدستورية الى مآلاتها النهائية بإنجاز عملية التحول الوطني الديموقراطي لم تكن مرفوضة ضمنياً من المكوّن العسكري وفلول النظام السابق وحسب، بل كانت غير مرغوب فيها أيضاً من القوى الخارجية التي كانت تعمل لترتيب الواقع السياسي في السودان بما يلاءم مصالحها وليس مصالح الشعب. وان القوى الخارجية المنظور منها عبر لجان الوساطة المتعددة المرجعيات والمخفي منها عبر قنوات الاتصال الخاصة والسرية، عملت على خطين:
الأول، دعمها المعنوي للمكوّن العسكري وتقوية مواقعه لتمكينه من فرض الخيارات السياسية التي يريدها وتتماهى مع قوى الخارج الدولي والاقليمي.
والثاني، إضعاف حضور وفعالية المكوّن المدني في إنتاج حلٍ سياسي وطني. ولهذا مارست ضغوطاتها باتجاه شق صفوف قوى الحرية والتغيير وشد القوى الرخوة والوسطية فيها للانفضاض عن التحالف الوطني العريض والدخول في هيكلة سياسية جديدة مع المكوّن العسكري تحت عنوان «الاتفاق الاطاري». لكن تبيّن ان القوى التي انسلخت عن جسم قوى الحرية والتغيير، لم تستطع أن تؤمّن حضوراً متوازناً مع المكوّن العسكري، مما أدّى الى افتقار التحالف السلطوي الجديد للتوازن بين أطرافه، حيث بدا مختلاً لمصلحة المكوّن العسكري الذي أخذ يضع نفسه في مناخ إعادة أحكام السيطرة على مقاليد السلطة مع تغطية مدنية شكلية لمحاكاة ما تطلبه قوى الخارج الدولي والاقليمي التي تدعو لإقامة «حكم مدني». ومن هذا الواقع المستجد انطلقت عملية الصراع بين البرهان وحميدتي بعدما باتت المطامح مكشوفة بينهما لشغل الموقع الأول في هرمية السلطة في بلد تلعب فيه العوامل الشخصانية دوراً في تحديد مسار الأحداث.
ان الذي دفع الوضع الى الانفجار العسكري، هو الانكشاف التام للمكوّن العسكري بعد انقلاب الردة، ورفضه المضمر لعملية التحوّل الديموقراطي. فهذه العملية التي لا يستسيغها العسكر هي أصلاً غير مرغوب بها اقليمياً ودولياً أيضاً، لان الحل السياسي المرغوب إنتاجه بنظرهما، ليس ذاك الذي تدعو إليه القوى الوطنية والديموقراطية التي قادت الحراك، بل الحل الذي يعيد إنتاج النظام السابق ويحاكي شروط صناديق الاستثمارات الدولية واتفاقات ابراهم قياساً على ما يُعْملُ على تطبيقه وتمريره في العديد من الأقطار العربية وتلك التي ناءت وتنوء تحت ضغط أزمات بنيوية.
لقد كانت القوى الدولية المتدخلة بالشأن السوداني، كما تلك التي كانت في مواقع السلطة قبل سقوط البشير وتلك التي خرجت من رحمه ودخلت في تسوية مع قوى الحراك الشعبي، تراهن على جرّ الحركة الشعبية المعترضة على الأداء السلطوي الى المربع الأمني لادخال الصراع نطاق العسكرة على غرار ما حصل في ساحات عربية أخرى. ولما لم تتحقق هذه الرغبة بفعل الوعي الوطني والسياسي الذي تميّزت به قوى الحرية والتغيير وضبطها لحراك الشارع بالتعبيرات الديموقراطية، كان الانتقال الى الخطة التي تقضي بتفجير العملية السياسية برمّتها وصولاً الى تفجير البنية الوطنية.
ان الحدة الذي اتسم بها الصدام العسكري بين وحدات الجيش والدعم السريع، والتدمير الشامل الذي تجاوز مواقع التموضع العسكري لكلا الطرفين، دلّل على ان الهدف لا يرمي الوصول به الى إضعاف القدرات العسكرية وحسب، بل تدمير بنية الدولة، وتحويل الأزمة في السودان من أزمة سياسية الى أزمة بنيوية على غرار الأزمات التي عصفت بسوريا واليمن وليبيا وهو الذي يفضي الى خلق وقائع جديدة، تملي إعادة ترتيب الأولويات، حيث يتقدم شعار وقف القتال وإعادة الانتظام لسير المرافق العامة وتأمين الخدمات للمواطنين وإعادة النازحين واللاجئين على جوهر عملية التحول الديموقراطي. وبهذا تكون القوى التي تضمر شراً بالسودان، قد نجحت في جعل مشروع التغيير السياسي الوطني وتحشيد القوى حوله، يتراجع أمام الأولويات الوطنية والشعبية التي استجدّت بعد الصراع العسكري وما خلّفه من تداعيات ضاغطة على الأمن الوطني والاجتماعي وخاصة المعيشي منه.
ان القوى الداخلية والخارجية المعادية للتغيير والتي لم يتسنَّ لها النجاح الكامل في تنفيذ (الخطة أ) الرامية الى تفجير العملية السياسية بمضمونها الوطني الديموقراطي والإطاحة بقواها بعد انقلاب الردة، انتقلت الى الخطة (ب) التي تفضي الى تفجير البنية الوطنية لخلق وقائع تمكّن من إنتاج عملية سياسية تتماهى مع تلك التي ترسم لأكثر من ساحة عربية.
لقد كانت الآمال معلقة على تمكّن قوى التغيير الوطني من إنجاز عملية تحوّل وطني ديموقراطي. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل مسموح للسودان أن يحقق حراكه الشعبي تغييراً وطنياً ديموقراطياً، في ظل هذا الإطباق الدولي والاقليمي المعادي على الوطن العربي؟
ان الرد على هذا التساؤل، تجيب عليه طبيعة المشهد السياسي المخيّم على الساحة العربية، حيث تتم إعاقة وإسقاط كل المحاولات الرامية لإحداث تغيير وطني ديموقراطي بإرادة شعبية وطنية، والسودان ليس استثناءً. ولهذا فإن الظاهر من الصراع على السلطة وان تمظهر بين أطراف المكوّن العسكري، إلّا انه ليس هو السبب الجوهري الذي دفع الوضع الى هذا المستوى من القتال التدميري وان كان سبباً لإطلاق شرارته، بل الهدف الأساسي الكامن ورائه، هو تفجير العملية السياسية للحؤول دون إنجاز عملية التحوّل الوطني الديموقراطي والإطاحة بقواها ومحتواها الوطني وإلا تفجير البنية الوطنية برمّتها. وهذا ما يجري تنفيذه وفق ما خطط له في دوائر التقرير السرية لتكييف وضع السودان وفق ما تتطلبه شروط تشكيل نظام إقليمي جديد يكون الحضور العربي فيه على مستوى مكوناته الوطنية ومكوّنه القومي العام هو الأضعف.