بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 نيسان 2019 12:42م الإقتصاد اللبناني.. أين تكمن خطة الإنقاذ؟

حجم الخط

يتجه الإقتصاد اللبناني إلى مفترق طرق بسبب إتباع سياسات إصلاحية مسكنة هدفها معالجة قضايا جزئية في ظل بيئة سياسية مضطربة على الساحتين الداخلية والخارجية. اليوم، ينظر قسم كبير من اللبنانيون إلى مصرف لبنان على إنه المنقذ الدائم للإقتصاد في ظل فشل السياسيين. فيرى الكثيرون أن سياسة المصرف المركزي المرتكزة على ثبات سعر الصرف هو جزء لا يتجزأ من سياسة الاستقرار النقدي والمالي وأن أي إخلال بهذا التوازن الدقيق سوف ينعكس سلباً على الإقتصاد. في المقابل، يرى فريق آخر أن السياسة النقدية المتبعة حالياً قلصت حجم الإقتصاد اللبناني و أدت إلى تراكم الدين العام. في هذا الإطار، إن الخلاف في وجهات النظر حول سياسة مصرف لبنان في الفترة الأخيرة، ما هو إلا جزء من السجال السياسي، و محاولة لتسجيل النقاط في مرمى الطرف الآخر.

فشل السياسة النقدية

يعود السبب الرئيسي للإستقرار الّذي عرفته قيمة الليرة اللبنانية خلال السنوات الفائتة لعوامل ومؤثرات مر بها لبنان سنة بعد سنة وعلى رأسها تدفق الأموال من المغتربين وسواهم. من البديهي أنّ مصادر الدخل هذه معرضة لتقلبات كبيرة في قيمتها، خاصة وأنها تعتمد أساساً على السياسة التي تتبعها الدول الأخرى وعلى الإستقرار الإقتصادي في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة. فأهم التحديات المالية اليوم تكمن في صعوبة الحفاظ على تدفقات الودائع في ظل إرتفاع كبير في عجز الحساب الجاري وتراكم الدين العام . ففي الماضي، كانت تدفقات الودائع الأجنبية مصدرا أساسيا لتمويل العجز الكبير في الموازنة العامة. غير أن نمو الودائع شهد تراجُعا كبيرا في السنوات الأخيرة وترافق ذلك مع انخفاظ في صادرات السلع بينما ارتفعت الواردات بسبب انخفاض تكلفة القروض التي يتيحها مصرف لبنان من خلال عدة برامج تحفيزية تقوم على دعم الفوائد.

لمواجهة هذه الظروف، عمد مصرف لبنان في السنوات الأخيرة إلى استحداث عدة عمليات مالية غير تقليدية اتاحت للبنوك المحلية حوافز كبيرة للاستثمار في الودائع المقومة بالدولار. وبينما أدت هذه العمليات إلى رفع إجمالي الاحتياطيات لدى مصرف لبنان وزيادة رأسمال البنوك التجارية، فقد فرضت تكلفة على ميزانيته العمومية ومركزه الصافي بالعملات الأجنبية. فقد أنتجت سياسات مصرف لبنان تشوهات سوقية خطيرة أدت إلى خلق أموال احتياطية جديدة، و إضعاف الميزانية العمومية للمصرف المركزي، وخلقت مجموعة مختلفة من المخاطر على الاستقرار المالي عن طريق تعريض البنوك لمخاطر سيادية كبيرة وتفاوتات في آجال الاستحقاق.
 
إصلاحات هيكلية بدل من السياسة التقشفية
في ظل انخفاظ النمو وإرتفاع الدين العام، أصبحت الإصلاحات الهيكلية ضرورة ملحة لتجنب الكارثة. فإصلاح الكهرباء واستئصال الفساد هي من البنود الأساسية على جدول أعمال الحكومة اليوم. فمن المعروف أن قطاع الكهرباء ليس فقط نقطة الضعف الأكثر إلحاحا في لبنان، بل هو مصدر كبير لاستنزاف موارد الموازنة أيضا. في سياق آخر، تعمد الحكومة اللبنانية اليوم إلى طرح سياسات تقشفية كحل سريع لإنقاذ المالية العامة وتخفيف العجز. لعل أهم سؤال يبرز في هذا الصدد، هو هل يتوفر التوقيت والظرف الاقتصادي اللذان يتوافقان مع التوجه التقشفي للحكومة الحالية؟

من المفاهيم الأساسية المتفق عليها في علم الإقتصاد أن الطفرة الاقتصادية (economic boom) هي الأنسب للاتجاه التقشفي، وليس الركود. يعني أن الطفرة الاقتصادية هي الوقت الأنسب لتقشف الخزينة العامة. وفي السياق نفسه نشرت جامعة هارفارد دراسة بعنوان "النمو في زمن الديون”، وأظهرت أن الدول التي وقعت في عجز عام في ميزانياتها العامة، عقب الأزمة المالية العامة في ٢٠٠٧، لم تتجه لتبني أي اتجاه تقشفي وقت الركود، بل اتجهت إلى سياسة التيسير الكمي، وبدأت في الاتجاه التقشفي عام ٢٠١٠. فاليوم تعتمد الحكومة اللبنانية على رؤية تنموية استراتيجية، التي وإن كانت جيدة في كتابها، إلا أنها تفتقر إلى وجود هدف واقعي وقابل للتحقيق ومتمتع بالقبول العام. وبالنظر إلى الواقع فإن لبنان في مرحلة يتطلع فيها إلى استعادة السلم الاجتماعي، وسد الاحتياجات الأساسية لعموم المواطنين، وبناء بنية تحتية وبنية ذكية متطورتين لتدشين اقتصاد أكثر تنافسية وعدالة. فبرنامج الحكومة الاقتصادي الهادف إلى تنشيط النمو يتضارب مع السياسات التقشفية المقترحة و التي تهدف إلى تخفيف العبء المالي عن الحكومة عبر نقله إلى المواطنين، إذ أن نقل العبء إلى المواطن، لا يسمح له بالادخار، أو تنشيط الاستهلاك، أو إشباع قدر أكبر من حاجاته الرئيسية.

في هذا السياق، تطرح السياسات التقشفية مخاطر عديدة، خاصة على الطبقة المتوسطة في لبنان، وكذلك على قطاعات وقضايا مرتبطة بهذه الطبقة، ومن أبرزها ما يلي:أولا- الإفقار المتزايد للطبقة المتوسطة: فتعد النسبة الأكبر من الطبقة المتوسطة في لبنان من ذوي الأجور الثابتة، ومن ثم فإن قدراتهم محدودة على التعامل مع زيادات الأسعار وتراجع الدعم الحكومي.ثانيًا- تراجع معدلات الطلب والنمو الاقتصادي: حيث إن تآكل الطبقة المتوسطة نتيجة الآثار السلبية للسياسات التقشفية يُلقي بظلال قاتمة على معدلات الاستهلاك. فارتفاع الأسعار يؤدي في مجمله إلى تراجع القوة الشرائية للطبقة المتوسطة التي يُنظر إليها على أنها من أكثر الفئات استهلاكًا، مما ستكون له تأثيرات سلبية شديدة على معدلات النمو والطلب في الاقتصاد، وهو ما يؤدي إلى انكماش سوق السلع الاستهلاكية والخدمات، وسيطرة الركود على التعاملات الاقتصادية.ثالثًا- تراجع الانفاق الاجتماعي: حيث لا يرتبط تراجع القوة الشرائية للطبقة المتوسطة على الطلب على السلع الاستهلاكية فحسب، وإنما الأخطر هو امتداد التأثيرات السلبية لتدهور الدخول الحقيقية لهذه الطبقة ومستوى معيشتها إلى قدرتها على الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة والتي تعطي لها أولوية كبيرة وتمثل نسبة كبيرة من إنفاقها.

التوازن المطلوب

في ظل غياب برنامج إصلاح إقتصادي شامل و طويل الأجل، إزداد العجز في الموازنه وتفاقم الوضع الإقتصادي بسبب عوامل عديدة ابرزها تضخم حجم القطاع العام بشكل كبير، إرتفاع كلفة الرواتب و المعاشات التقاعدية بنسبة تفوق ال-٦٠ بالمئة، زيادة عجز الكهرباء المقدر بملياري دولار سنويا، و إرتفاع خدمة الدين العام بنسبة تفوق ال-٢٥ بالمئة خلال الفترة ذاتها بسبب سوء الإدارة السياسية.

في هذا الإطار يجب إعادة النظر في برنامج الحكومة الإقتصادي لكي يتلاءم مع الواقع العملي لبنية الإقتصاد اللبناني ومتطلبات سوق العمل. لذلك فعلى أي خطة إقتصاديه أن تتيح إعادة هيكلة للاقتصاد، بحيث تدفع الدولة بدعمها قطاع رئيسي أو أكثر، لقيادة النمو الاقتصادي، على أن يضمن زيادة الأصول الإنتاجية بالدولة. كذلك ينبغي أن يتم وضع الخطة ومناقشتها، بإشراك للجهات غير الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني، وباستطلاع للرأي العام، بمعنى أن تحصل خطة التنمية في أهدافها وآلياتها على قبول مجتمعي واسع.

قبل الاضطلاع بمشاريع استثمارية كبيرة، ينبغي تعزيز إطار إدارة الاستثمار العام على أن تكون أي زيادة في الاستثمارات مرتكزة على خطة شاملة لضبط الاقتصاد الكلي تُصمَّم على نحو يكفل تثبيت نسب الدين العام ثم وضعه على مسار تنازلي. كذلك من الضروري احتواء المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي، بما في ذلك تحفيز البنوك على تعزيز هوامش الأمان بالتدريج واتخاذ مزيد من الإجراءات الرامية إلى تحسين جودة الائتمان. وبالتالي فالحكومة مدعوة في حال إعتمدت الضرائب، إلى فرضها على الموارد غير المُستخدمة، كالحسابات المصرفية الكبيرة، الأملاك البحرية والنهرية، الشقق الشاغرة .

ويمكن الاستفادة من التجارب الدولية للدول التي مرت بمراحل انتقالية اقتصادية وسياسية شبيهة، مثل دول أمريكا اللاتينية التي تُشير تجربتها إلى أن السيطرة على العجز أمر لا يمكن إنجازه بسرعة، أو بتبني سياسات تقشفية صارمة تزيد من الفجوات ما بين الطبقات، وتكرس عدم العدالة في التوزيع، وإنما ارتبطت بالأساس بتحقيق نموٍّ متوازن، وخلق فرص العمل، والاستثمار في رأس المال البشرى (التعليم والصحة)، وإنجاز إصلاح ضريبي يحقق زيادة الموارد، ويضمن توزيع الأعباء الضريبية بشكل أكثر انصافًا من خلال الضرائب التصاعدية.

*خبير إقتصادي وأستاذ محاضر في جامعة هارفرد