بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 حزيران 2023 12:02ص البطريرك الراعي في الفاتيكان.. الحوار.. واللقاء بالسيد السيستاني

حجم الخط
في اللقاء الأخير مع غبطة البطريرك بشارة الراعي منتصف الشهر المنصرم تمحور النقاش حول المبادرة الوطنية «ميثاق الاعتدال والانتخابات الرئاسية» وضرورة انتخاب رئيسٍ من نسيج ثقافة الحوار يبني الدولة اللبنانية، وتم التأكيد للبطريرك على أهمية هذه المبادرة بعد الأخذ بعين الاعتبار الهام «استراتيجية الأمن القومي اللبناني 2020»، خصوصا بعد أن عاد الجميع - بمن فيهم المؤثرون الدوليون - الى مسارها. فالاعتدال ليس موقفا ضعيفا أو رماديا أو انكفائيا، بل هو أن يقف المسؤول ثابتا معتدل القامة مرفوع الهامة ويقول كلمة الحق والمواطنة والعدالة والدولة بوجه الباطل والارتهان والظلم واللادولة.. بعد أن قدّمنا مطلع العام 2023 هاتين المبادرة والاستراتيجية الى كل من النواب ومرجعياتهم، رؤساء الطوائف، المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان والسفراء الخمس، تبين للجميع أن كل المبادرات انهارت وأنها المبادرة الوحيدة المتبقية الصامدة حتى اليوم التي أثبتت أهميتها وأهليتها الوطنية.
سادت خلال اللقاء مفردات تنتسب الى نظام القيم الإنسانية مثل الحوار الإنساني والمحبة والأخوة والتضامن والاعتدال والانفتاح والسلام ونبذ التعصب ورفض خطاب الكراهية والفتنة الى ما شابهها من قيم تربوية وثقافية لا غنى عنها لبناء أية دولة. وعادت بي الذاكرة الى أجواء مشابهة قد يفيد ذكرها في تبيان أهمية تلك القِيَم من أجل بناء «دولة المجتمعات» وليس «مربعات الاثنيات»، سأحاول تذكرها بايجاز:
نعتقد أن الموضوع الأبرز لزيارة البطريرك الراعي الفاتيكان الأسبوع المنصرم كان هو الدّفع بإتجاه إعتماد مسار الحوار الإنساني ونهج الاعتدال وتوظيفه من أجل انتخاب رئيس للجمهورية قادر على بناء الدولة اللبنانية وحفظ الكيان اللبناني. وعادت بي الذاكرة الى لقائي بالسيد السيستاني والكلام حول ثقافة الحوار، وسأتحدّث باختصار عن المسائل التي تناولتُها في اللقاء الذي دام لمدة نصف ساعة في صالونٍ صغير متواضع، مكتبه، جالسَيْن على مقعدين قديمين بسيطين متواضعين.
دعتني جمعية الهلال الأحمر العراقي (كانون الثاني ٢٠١٩) لإدارة ندوة علمية دولية حول «القانون الدولي الإنساني في النزاعات» في النجف الأشرف. المشاركون هم مسؤولون حكوميون وضباط كبار في الإدارات المعنية بتنفيذ هذا القانون. رئيس الهلال الأحمر العراقي رتّب لي أمرين :
1- زيارة المقامات المقدسة في النجف وكربلاء وبغداد.
2- تحديد موعد للقاءٍ خاص مع سماحة المرجع الإسلامي الشيعي السيد علي السيستاني في منزله في النجف (21 كانون الثاني 2019 الساعة 11) للتداول في مسألتين: ثقافة الحوار الإنساني، والقانون الدولي الإنساني.
استقبلني نجله السيد محمد واصطحبني الى مكتب والده، رحّب سماحة المرجع الأعلى وتابع بصوت هادئ منخفض جداً ونظرات ثمانينية مُتعَبة تتنقّل بين وجه الزائر والأرض وقال بعبارات عربية فصحى تصبغها اللهجة الإيرانية:
- ثقافة الحوار نحترمها من أجل بناء الدولة، وجوهر القانون الدولي الإنساني نطبقه انطلاقا من أحكام الدين الإسلامي والمعاهدات الدولية.
- ان تعليم هذا القانون وحقوق الإنسان خلال النزاعات هو واجبنا تجاه كلّ «عامّة الناس» (وفق تعبير السيد).
- التدخلات الدولية في الشأن العراقي هي غير شرعية لأنها جرت خارج مظلّة الأمم المتّحدة والشرعية الدولية، ولم يكن للحوار قبل تلك التدخلات المساحة التي يستحقها.
ومما قلت لسماحة المرجع الأعلى:
- بحثنا في الندوة في معظم الأفكار والمسائل التي تحدّثتم عنها. إننا - كخبراء - نثمّن عالياً عرض هذه الأفكار فيما خص الحوار الذي سبق أن أطلقنا حوله «إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار ٢٠١٥»، وأيضا فيما خص القانون الإنساني وحقوق الإنسان. لقد بحثنا في الجوهر العلمي والمقصد القانوني لرؤيتكم الدينية في مخرجات الندوة.
- نقترح على سماحتكم وعلى رئيس الهلال الأحمر العراقي - منظم الندوة - أن يتمّ معالجة الأفكار العلمية التي بحثناها مع المرجعيات الحكومية خصوصا تلك المتعلقة بتعليم ثقافة الحوار والقانون الدولي الإنساني لـ «عامّة الناس»، مع التأكيد على «ان الدّين الإسلامي وكل الأديان السماوية هي المنابع الأساسية للحوار وحقوق الإنسان».
- ان مضمون لقائنا سيمنح منظمي الندوة دعماً معنوياً لمواجهة هذه الاشكاليات العلمية القانونية في مسار معالجتها على المستوى الرسمي في الوزارات والإدارات العراقية ذات الصلة. سأطلب من الهلال الأحمر العراقي متابعة المستجدات كي نواكب عن كثب هذه الجهود ونصل الى نتائج هادفة.
- الحوار الإنساني، سماحة السيد، هو من أهم حقوق البشر، ان «إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الإنساني» هو أول وثيقة علمية ثقافية دولية تدعو الى الاعتدال والتسامح والاخوة والتلاقي لنبذ الكراهية والعنف من أجل بناء الدولة.
وتعود بنا الذاكرة الى زيارة قداسة البابا فرنسيس الثاني بغداد (آذار ٢٠٢١) استمرت أربعة أيام شملت النجف وسهل أور وأربيل وقرقوش والموصل، والتقى سماحة السيد علي السيستاني في النجف الأشرف، ووقّع المرجعان «وثيقة الأخوة الإنسانية ٢٠١٩» لإدانة التطرّف والدعوة الى  السلام.
كتبنا المضمون أعلاه لأنه يدخل في سياقٍ موضوعي يقضي بنشر وتعزيز ثقافة الحوار في البلدان التي تشهد نزاعات وأزمات مثل لبنان، ونأمل بل ونعتقد أن زيارة البطريرك الراعي الأسبوع المنصرم الى روما استندت الى فعل الحوار والتعاون الجدّي بين مكونات (المجتمعات اللبنانية!) في سبيل إجراء الاستحقاق الدستوري، مستمدّا صوابية رأيه من جوهر الوثائق الثلاث: «إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار ٢٠١٥» و«وثيقة الأخوة الإنسانية ٢٠١٩» و«ميثاق الإعتدال لبناء الدولة ٢٠٢١» التي ندعو جميعا الى تطبيقها، صوابية طبعت تواصل غبطته مع الفاتيكان وباريس من أجل حوارٍ لبناني حقيقي يفضي الى انتخاب رئيسٍ من نسيج ثقافة الحوار والاعتدال، واللّه من وراء القصد، وهو خيرُ العالمين.

(*) رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والإعلام.
أستاذ جامعي.
عميد ركن سابق