بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 شباط 2023 12:00ص التجربة اللبنانية

حجم الخط
يخوض لبنان في تجربة فريدة من نوعها تجربة لم تعرفها بلدان العالم قاطبة، لم يعرفها أي بلد من البلدان، تجربة لا تخطر على قلب بشري يعيش اليوم بين عالم البشر، إنها تجربة البراءة الإنسانية والعفوية الآدمية، والتخلّي عن كل ما جاءت به البشرية، في تاريخها القديم والحديث، من علوم وحضارات وإدارات وقيم وأخلاق وتعاون إنساني خلّاق، إنها تجربة التخلّي عن كل ما يمتّ للحياة العصرية بصلة، وما يمتّ للحياة البشرية والحياة العامة، بشكل مطلق وعام. تجربة فريدة من نوعها، قلت عنها قبل قليل: إنها لا تخطر على قلب بشري.. إنها لا تخطر على قلب البشر.
لا نتكلم ها هنا في العموميات، ولهذا أراني مضطرا لتعداد الوجوه المختلفة لهذة التجربة، التي قلنا عنها: إنها تجربة فريدة من نوعها في العالم المعاصر:
1- لبنان الوحيد في العالم الذي يفضّل الشغور الرئاسي، يفضّل أن يظل دهره بلا رئيس، يقاتل من أجل ذلك، يقوم بالإتصالات، ويبني التحالفات، ويحوك المؤامرات، ويغوص في المغامرات، حتى لا يأتي رئيس، لا من هذا الطرف، ولا حتى من ذاك. حتى لا يأتي رئيس وسطي: لأنه موصوف سلفا: بأنه لا لون له ولا طعم، ولا يحمي أي ظهر. ولهذا يمرّ لبنان اليوم في إمتحان صعب وقاسٍ، ذاك أنه يفضّل الشغور الرئاسي على إنتخاب الرئيس.
2- نجح لبنان في تعميم هذه التجربة في الشغور، فإستلذّها، وصار يطلبها لكل المواقع، وخصوصا المواقع الإدارية. ولذلك، تراه عظيم الغبطة والسرور، إذا ما فرغت الإدارة من رئيسها، أو حتى من مجلس الإدارة، أو حتى إذا إستغنى عضو فيها، عن الإستمرار في الإدارة. يستبشر خيرا، إذا ما سمع، أن القائد، ينتظر نهاية الخدمة بفارغ الصبر، حتى يذهب إلى بيته، وتفرغ المؤسسة من قائدها. يعتبر أن القيادة على رأس أهم مؤسسة أمنية، هي لزوم ما لا يلزم. ولهذا تراه مبتهجا للغاية بالشغور في القيادة.
3- ينتظر لبنان بفارغ الصبر، فراغ الحاكمية من حاكمها، فهو يهلل لهذا اليوم، ويريد في سرّه، لو يذهب الحاكم منذ الآن إلى بيته. لأن شغور الحاكمية هو الأفضل. ونراه يسارع لإبداء الرأي، بأن أحدا من نواب الحاكم، لا يرغب هو أيضا، بأن يملأ الشغور في الحاكمية. إذ الشغور مطلب لبناني. وهو يعبّر أشد التعبير عن عدم الحاجة للحاكمية كلها، بحاكمها، وبجميع أفراد مجلسها.
3- لبنان يفضّل أن تذهب الإدارة العامة في الدولة، إلى البيت، فيستريح من طلباتهم، ومن مناكفاتهم، ومن التعالي على أجورهم بالملايين. إذ لا فائدة من الإدارة اللبنانية، التي أصبحت صفرا في تقديم الخدمات، فوجودها وعدمه سواء. ولهذا يفضّل الشغور الإداري، لأنه الحل الأمثل لبنيان مثل هذه التجربة اللبنانية المبتغاة من «بيت بو سياسة»، كما يقول هنري زغيب.
4- منذ عصر كورونا، تعوّد لبنان، أن يرى الجامعات مغلقة، أن يرى المدارس مغلقة، أن يرى الثانويات مغلقة، أن يرى المهنيات مغلقة.. فضّل في بداية الأمر التعليم عن بعد، ثم وجد أن لا فائدة من الدروس، فالدراسة أفضل بألف مرة، أن تكون بالتحصيل الشخصي، على أن يكون هناك مدرسون وأساتذة جامعيون، يشاغبون على الرواتب والأجور، وكلفة التعليم، بلا تعليم، ولو بـ «خمس ليترات» من البنزين.
5- لبنان يفضّل أن يكون بلا أجهزة، مدنية كانت، أم غير مدنية، لا فرق.. ذلك لأنه لا يريد أن يتكلف قرشا واحدا عليها. فاللبنانيون تعوّدوا النظام والإنتظام. وهم من الإشارة يفهمون. فما الداعي لوجود الأجهزة. فما الداعي لوجود قادة الأجهزة. فما الداعي لوجود كل الأجهزة، بكل طبقاتها، وبكل فئاتها، وبكل عناصرها، من الباب إلى المحراب، ما دام اللبنانيون سيذهبون جميعهم إلى الأمن الذاتي، إلى الأمن الشخصي، إلى الأمن الطائفي، إلى الأمن الأهلي والأسري والبيتي، إلى الأمن المجرّب من كل الأنواع.
6- لبنان يفضّل العيش بلا نقود، بلا محفظة نقود، بلا خزنة في البيت أو في المصارف والبنوك. لبنان يفضّل إقتصاد المبادلة بين السلع، على شراء السلع، ولهذا سارع وأبطل عملته، فلم يعد هناك من يقبلها في أسواقه، حتى وزارة الإقتصاد صارت تنادي على الدولار في «سوق البطيخ»، جعل من الليرة جناح صوفة، تطير من اليد، لا يستدل عليها، ولم يعد لها لون ولا طعم ولا وزن. تخلّى لبنان عن عملته، مثلما تخلّى عن قائد وعن رئيس، وعن إدارة وعن جهاز، وعن موظف، وعن طبقة من الموظفين، فصارت الليرة إلى الذكريات من الزمن الجميل.
7- التجربة اللبنانية التي يعيشها لبنان اليوم، هي بسرعة أنشتاين، تخطف الأنظار خطفا. فجميع اللبنانيين يعرفون أدوارهم مسبقا، وجميع اللبنانيين مرتبطين بخارج البلاد، وهم يفهمون لغة صفارة الحكام، ولغة صفارة الرعيان، ويميّزونها عن صفير البلبل. ولهذا نراهم غير مهتمين بما حدث، ولا بالـ «ما» يحدث، ولا حتى بما سيحدث. فكل ذلك، بنظرهم خارج دائرة الإهتمام، ما دام كل منهم، سيد نفسه، من مجلس النواب، حتى الناطور منهم والبواب. ولهذا هم مستعدون أن يخلعوا أحذيتهم، ويمشون قساوسة ورهبانا وقديسين، فلا حاجة لأي شيء من العالم، لأنهم أصبحوا خارج العالم.
التجربة اللبنانية، يجب أن تعمم على العالم كله. أليس هم أساتذته ومكتشفوه ومبدعوه ومعلموه؟ فلينتظر العالم في كهوفه، حيث يعيش، إلى أن يخرج اللبنانيون إليه هذه المرة، يعلمونه الحرف الجديد: إلغاء العالم كله، من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حتى القارات الخمس... وبذلك، لا تسقط عنه الديون، بل يهرع إليه العالم لإلغاء الديون التي أغرقته حتى أذنيه. 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية