بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 أيلول 2018 12:07ص الجرعات القاتلة

حجم الخط
بحثتُ في كل معاجم الشعوب عن مفردات تشخّص الحالة اللبنانية، فما وجدت سوى الفاظ متناثرة تضاهي الشتائم ولعنات ثقيلة تنهال على الحكام وأبناء الحكام والمسؤولين. تثبّتُ أن ممارسة الديمقراطية في لبنان لعبة تشابه القمار، وأن الفوز بالعملية الانتخابية قوامها تزاوج بين اثارة الغرائز واستغلال احتياجات الناس وتزوير النتائج، لذلك لست أغالي بقولي ان صناديقنا الانتخابية لن تنجب رؤساء أبطالاً، بل نواباً بائخون وقادة للطوائف ولصوصاً للمذاهب، ينهبون آخر كسرة خبز من أفواه الشعب المسكين.
تيقنت منذ أمد ان لبنان دولة مركبّة من دويلات متعددة الاحجام والنفوذ تسكنها طوائف ومذاهب متوجسة تجاه بعضها البعض. دويلة المسيحيين في توتر مزمن مع دويلة المسلمين وأعوام الحروب الأهلية اللبنانية تشهد على ذلك. دويلة السنّة قلقة اليوم من فائض القوة لدى دويلة الشيعة والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان تؤكد ذلك. دويلة الدروز تلوّح بالطلاق كلما استشعرت بأنها مهددة من الآخرين. أما الطوائف الصغرى فتسعي جاهدة الى بلوغ دويلاتها سن الرشد لنيل حقوقها. وحين يفلح زعماء الدويلات في توزيع غنائم الوطن في ما بينهم على مائدة مجلس الوزراء (كما الحال في مرسوم التجنيس الأخير) يطلقون على البيعة لقب «المعجزة اللبنانية».
تخشى الطبقة السياسية من قيام انتفاضة اجتماعية أو عصيان مدني يزلزل كيانها، لذا تحرص دائما على حقن الشعب بجرعات متواصلة من مصل الطائفية والمذهبية لكبت الروح الوطنية ولتحقيق الانشطار والتشرذم الدائم بين صفوف المواطنين. طبقة شيطانية تتحكم بمصير شعب لبناني بائس يعيش مبنّجا تحت مفعول جرعاتهم القاتلة، ليضمنوا بذلك وأد اية محاولة جادة لقيام الدولة على أنقاض دويلاتهم، أو ردع اللبنانيين من رفع شعار «الشعب يريد اسقاط النظام»!
سيتواصل انحدار لبنان نحو الهاوية الى ان يأتيه قائد يمتلك عقيدة وطنية، يزج أبالسة السياسة اللبنانية الفاسدة وأفاعيها الطائفية والمذهبية خلف قضبان السجون. قائد وطني يحظّر بل يجرّم حقن الشعب بجرعات مذهبية وطائفية لكي يسترد المواطن وعيه الوطني وقدرته على التنديد بالفاسدين لأي طائفة أو مذهب انتموا. فلا يدافع المسلم السنّي عن مسؤول سنّي متورط بملفات الفساد كيلا يسجل موقف ضعف امام المجتمع الشيعي، ولا يدافع المسيحي عن حاكم فاسد مسيحي مبررا اختلاساته كيلا يعكس حالة وهن امام المجتمع الدرزي... لقد شكل النظام الطائفي اللبناني درعا واقيا وحصانة متينة للفاسدين من أهل الحكم، حيث يتم استخدام المؤسسات الدينية لحماية زعماء الدويلات، لا لبناء الوحدة الوطنية عبر نشر مفاهيم الأخوة والمواطنية الصادقة وحقوق الانسان.
في العام 2005 زحف غالبية الشعب اللبناني الى ساحة الشهداء مطالبين بمغادرة الجيش السوري لبنان، وقد أُطلق يومها على هذا الحدث التاريخي اسم «ثورة الأرز». لكن الفضل الأساسي لنجاح هذه الثورة يعود الى الحماية التي أمنها الجيش اللبناني للمتظاهرين من اعتداءات مناصري بقاء الوجود السوري في لبنان، الذين كانوا قد حشدوا صفوفهم في حينها تأهبا للانقضاض على المعتصمين في ساحة الشهداء. اذ لو أفلح مناصرو بقاء الوجود السوري في لبنان إجهاض «ثورة الأرز»، لكان حريق الثورة السورية الذي اندلع في العام 2011 تمدد قطعا الى لبنان. لقد أثبتت الوقائع كما الأحداث ان الجيش اللبناني بحمايته «ثورة الأرز» هو الذي أبعد الحريق السوري عن لبنان، لا الذين رفعوا شعار «شكرا سوريا».
وفي العام 2017 أنجز الجيش اللبناني بنجاح عملية «فجر الجرود» بطرده تنظيم «الدولة الإسلامية» من الحدود اللبنانية – السورية وبذلك تمكن الجيش من حماية لبنان واللبنانيين من مخاطر الأعمال الارهابية. لكن خطر تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يقارن بشيء أمام فداحة خطر «دواعش المال والفساد» من اهل السلطة، الذين اوصلوا لبنان إلى شفير الانهيار المالي والانفجار الاجتماعي. إذ يكفي مراجعة تقارير الصحافة الأجنبية ومنها مجلة «الايكونوميست» البريطانية، التي حذرت بالأمس القريب من انهيار لبنان الاقتصادي فيما السياسيون يتلهون بتقاسم «الجبنة»!
حين يطغى مفهوم الدويلات المذهبية والطائفية على فكرة الدولة، فانتظروا الهلاك. في العام 1975 أصيب المجتمع اللبناني بجرثومة قاتلة تسمى الطائفية. بتنا يومها ننجذب لفكرة دويلة المسيحيين ودويلة المسلمين، لا دولة اللبنانيين. أضحينا أبناء الشرقية والغربية، لا أبناء العاصمة بيروت. منا من استنجد بالفلسطينيين ومنا من تعاون مع الإسرائيليين، للانتصار على بعضنا البعض. فكانت الحصيلة اننا وقعنا جميعا تحت قبضة السوريين. لكن الفصل الأسوأ بعد سقوط الدولة اللبنانية وبروز الدويلات، تسرّب جرثومة الطائفية داخل هيكل المؤسسة العسكرية، حيث انقسم الجيش اللبناني خلال حرب السنتين 1975-1976 الى جيش مسيحي وجيش مسلم (جيش لبنان العربي) مما أفقد الوطن مناعته، ليدخل لبنان في صراع دموي بين دويلاته الطائفية.
كانت جرثومة الطائفية في العام 1975 كافية لإشعال حرب أهلية في لبنان لمدة خمسة عشر عاما، لكننا اليوم مصابون بأكثر من جرثومة قاتلة. فإلى جانب جرثومة الطائفية يعاني المجتمع اللبناني من جرثومتي المذهبية والفساد، مما يدل على اننا حاليا في وضع أكثر ترديا وخطورة من عشية العام 1975. اننا نتساءل ألم يحن الوقت ليخرج من بين صفوف هذا الشعب قائد يحمل فكرا وطنيا ومناقبية أخلاقية يسير على نهج الرئيس فؤاد شهاب؟ ثم الى متى سيبقى جيشنا اللبناني راصدا تقدم الدويلات وتراجع الدولة معرضا لبنان ووحدة المؤسسة العسكرية للخطر، فيما المطلوب التفاف الجيش حول الشعب ومؤازرته في القضاء على الدويلات السرطانية. فأين هي «ثورة الأرز» الثانية لبناء دولة لبنان الحديث؟
هاني النصولي