بيروت - لبنان

29 آذار 2024 12:11ص تباينات المعرفة بغزة

حجم الخط
 امتحنت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، بعد مرور خمسة أشهر تقريبا عليها، أن هناك تباينات معرفية، عند جميع الأطراف التي تدير المعركة بغزة، فلا حماس استطاعت أن تحمي غزة، من ردّة الحرب عليها، ولا الجيش الإسرائيلي استطاع أن يحسم المعركة، أن ينتصر في غزة. وما استطاعت أميركا أن تدير معركتها، على الرغم من الأساطيل والجيوش التي أرسلتها قبالتها، ثم عادت فسحبتها، وعلى الرغم من المدد الأميركي في العديد والعتاد لإسرائيل، وعلى الرغم من وضع الخارطة اللوجستية في خدمتها.
كذلك لم تجرؤ دول الاتحاد الأوروبي، أن تسجل ولو حضورا عسكريا بسيطا فيها. اللهم سوى تسجيل المواقف المنبرية: النارية حينا، والمتراجعة إلى الوراء حينا آخر.
أما ترسانة محور وحدة الساحات، فقد ظلت تناوش في معركة غزة، من بعيد، تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، تدرس الموقف ساعة بساعة، وتصغي مليّا للقصف والعصف الذي يدوي في غزة، وتشاهد على الشاشات، عمليات الهدم المنظم للمدينة، وعمليات التدمير الممنهج للمستشفيات وللمدارس وللمساجد وللكنائس وللجامعات وللإدارات العامة.
وخلف وحدة الساحات، كان محور الممانعة، من الروس والصين وإيران، يدفع بالحوثيين، نيابة عنهم، فقط للمناوشة، ويحاولون تحريك جبهة الجنوب في لبنان بحذر، على الرغم من وحشية الاعتداءات الإسرائيلية اليومية، والتي تجاوزت الجنوب اللبناني، ووصلت إلى جميع المحافظات والأقضية اللبنانية، حتى بات لبنان كل لبنان، مشمولا بالحربة الوحشية الإسرائيلية على غزة وعلى مدن قطاع غزة، وعلى القدس ورام الله ومدن الضفة كلها.
وأما دول البريكس، فما استطاعت أن تسجل على نفسها، ولو نقطة بالنظام، في معركة غزة، ولم تظهر فيها ولو مظاهرة صغيرة تأييدا لغزة. وكذلك الأمر في تركيا، التي تنادي على المنابر بهمجية إسرائيل، ولم يسجل أي تحرك لها.
وبالمماثل، ظلت دول التطبيع العربي على مسافة واحدة، من إسرائيل ومن حماس. تقدم الأكفان، والخيام، وبعض تنك الطعام، في حملات الإغاثة. وهي على موقفها المحافظ على التطبيع، تناور على من يقول «آخ» أولا، في معركة العض على الأصابع، العض على الجراح، لتدعوه للتنازل عن بعض شروطه المسبقة، في جولات المفاوضات بين ممثلي حماس، وبين الممثلين الإسرائيليين، وغرضهم الوحيد فقط، إنقاذ الأسرى والهدنة المؤقتة.
وحدها المملكة العربية السعودية، ظلت تنادي على وقف الحرب، وتدعو إسرائيل جهارا ونهارا، لوضع سلاحها، والإنسحاب عن أسوار غزة، وتتعهد أمام أهل غزة، وأمام السلطة الفلسطينية، وأمام الشعب الفلسطيني، وأمام العالم الحر أجمع، أن تظل على موقفها إلى جانبهم، مهما إشتدّ أوار المعركة، ومهما تعنّتت إسرائيل بموقفها، ومهما حصدت من الدعم الرسمي الغربي علنا، ومن غيره سرا.
كشفت الحرب في غزة ومدن قطاع غزة، أوراق إمتحانات المشاركين جميعا، عرّت المواقف، ودفعت الأطراف المشاركة في الانغماس فيها، أن يعيدوا حساباتهم. فهي ليست لقمة سائغة، وهي ليست حربا سهلة، وهي ليست مجرد مدينة بسيطة، ولا مجرد قطاع بسيط، بل جعلت جميع المشاركين، المنغمسين والحذرين، أن يعيدوا حساباتهم، ويعدّوا «للعشرة».
غموض المعركة بغزة، يفسّر طول المعركة، بين طرفين غير متعادلين بالقوة الخفية، أو بالقوة المنظورة:
١- الجيش الإسرائيلي، بكل قوته وجبروته وعتاده وأجهزته المحدثة، والذي يقرّ بين الحين والآخر، بالخسائر وبالروح الإنهزامية لدى جنوده، تحت وطيس المعركة.
٢- التنظيم الحمساوي والجهادي، وقواه البدائية العارية، الذين يقاتلون باللحم الحي والذين يبرهنون يوما بعد يوم، عن شدّة تماسكهم، وعن شدّة تمسّكهم بدولتهم في غزة، على الرغم من الخسائر الجسيمة التي يتكبّدها الشعب في غزة، ليس فقط لجهة أعمال الهدم والتدمير، بل لجهة حملات التجويع والإبادة الجماعية.
أما الأميركيون وتحت إبطهم الأوروبيون حتما، فهم على حيرة من المعركة في غزة. على حيرة، من الخروج من أنفاق غزة. يراهنون على أن يبلغ الجيش الإسرائيلي منتهاه في غزة، بلا نتيجة حاسمة. ويراهنون بالمماثل، على أن تخور قوى حماس والجهاد، فيتقدمون وينصبون خيمة المفاوضات، في رفح المصرية، كما فعل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قبل أيام.
وأما الروس، فقد ذاقوا ليلة من الجمر والنار في الحفل الصاخب، في كروكوس سيتي هول بموسكو، مثل طوفان الأقصى وأكثر. وهم اليوم يقرّون بجهلهم برمل غزة، بجهلهم بغزوة النقب، بجهلهم بأنفاق غزة.
ولا يزال المطبعون، يمتحنون أنفسهم كل يوم، قبل أن يمتحنوا إسرائيل وحماس، في مدى معرفتهم بأسرار الحرب في غزة، منذ الطوفان حتى ساعة حريق الحفل الترفيهي في أسواق موسكو.
وهذا كله يفسر التباين والبلبلة، في المفاوضات التي يرعونها، بغية الوصول إلى نتائج، ولو بلا نتائج، عقب كل جولة، والإعداد لجولات من المفاوضات جديدة، وبصورة مستمر.
المعركة تطول في غزة. تعجز إسرائيل، وتعجز حماس والجهاد، وتعجز أميركا، وتعجز أوروبا، وتعجز الروس والصين، وتعجز إيران ووحدة الساحات لدى المقاومة ولدى قوى الممانعة، والسبب حتما: تباينات المعرفة بغزة، لأن صورة المعركة، في غزة، هي صورة خادعة.
وحدها المملكة تنادي بالفم الملآن:
إرفعوا أيديكم عن غزة، وعن رفح، وعن مدن القطاع. ضعوا السلاح جانبا، رحمة بالأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، وقتلى وجرحى منتظري المساعدات. أوقفوا جرائم الإبادة الجماعية التي لا تصل إلّا إلى مزيد من المقاومة. أوقفوا التدمير الممنهج، الذي لم يعد يرعب الفلسطينيين ولا أهل غزة، فلم يعد عندهم ما يخسروه، أكثر مما خسروا.
سارعوا واخرجوا من غزة، فلغزة رب يحميها، وتعالوا إلى كلمة سواء بعدها!