بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 شباط 2023 12:00ص تنهار الدول عندما ينهار قضاؤها

حجم الخط
الهدوء الذي يخيّم حالياً على المرفق القضائي، لا يعني ان الندوب التي أصابته مؤخراً من خلال التجاذبات الحادة بين المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت والنائب العام التمييزي قد شُفي منها، أو على الأقل التأمت تشققاته. فالذي حصل لم يكن في حقيقته وأسبابه الفعلية ينطوي على تنازع على الصلاحيات وحسب، بل يرتبط بالمرفق القضائي، كمرفق عام، نص الدستور على اعتباره واحداً من السلطات الدستورية، في نظام يقوم نظرياً على أساس الفصل بين السلطات مع استطراد لتوازنها وتعاونها.
ان أحداً لا ينكر، ان لبنان ما يزال يعيش تحت تأثير الهزات الارتدادية، وبطبيعة الحال ليس الزلزال الطبيعي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وإنما الزلزال الذي ضربه انطلاقاً من فالق المرفأ. فهذا الزلزال لم يحدث تصدّعاً في الأبنية والمرافق الحيوية والحياتية وحسب، وإنما أحدث تصدّعاً قوياً في البنيان المؤسساتي للدولة ومنها مؤسسة القضاء. وفي سياق المتابعة القضائية للتحقيق في الجريمة بكل ما تنطوي عليه من أركان مادية وقانونية، يتبين انها وقعت تحت تأثير الضغوط السياسية، بهدف حرف التحقيق عن مساره القضائي التقني والاحترافي، وتقييد الجريمة ضد مجهول في الحد الأقصى أو اقتصار التوصيف الجرمي على التقصير والاهمال الوظيفي في الحد الأدنى. وهنا لن ندخل في تحليل الأسباب الكامنة وراء الدفع لعدم كشف الحقيقة بكل ما تنطوي عليه من أبعاد وما سيترتب عليها من نتائج قانونية وسياسية، في حال وصل التحقيق الى مآلاته النهائية بمعزل عن أي ضغط سياسي يتعرض له. وإنما سنحصر التطرق الى ما أقدم عليه المحقق العدلي والنائب العام التمييزي. وهنا نسجل ملاحظات على الطرفين الظاهرين في الإشكالية القضائية التي برزت في سياق التعاطي مع الملف.
فبالنسبة للمحقق العدلي، فهو ارتكب عدة أخطاء:
أولاً، من خلال انتظاره طويلاً لإعادة وضع يده على الملف بعد توقف عن متابعة اجراءاته لمدة تزيد عن سنة، بسبب مراجعات الرد المرفوعة ضده. فإذا كان استند في استئناف متابعته للاجراءات على اجتهاد سابق عن المجلس العدلي  بانه هو صاحب الاختصاص والصلاحية للبت بطلبات الرد الموجهة ضده، فلماذا لم يلجأ الى هذا الاجتهاد منذ بدأت مراجعات الرد تقدم ضده؟
أما ثانياً، بغض النظر عن الخلفية الكامنة وراء مراجعات الرد الموجهة ضده، فان نص القانون واضح، لجهة ان القاضي التي تقدم مراجعة رد ضده، يتوقف عن متابعة النظر في القضية التي يحقق بها، الى أن يفصل في الطلب وحسبما تنص عليه المادة ١٢٥، أ.م.م. وبالتالي فان المحقق العدلي لا يحق له العودة لمتابعة بالنظر بالقضية عفواً طالما لم يبت بطلب الرد، وحتى ولو كان طالب الرد متعسفاً في استعمال الحق.
أما ثالثاً، إن المحقق العدلي بعد إحالة الملف إليه أصولاً استناداً الى ادعاء النائب العام التمييزي، يضع يده عليه بصورة موضوعية. وان القانون أجاز له التحقيق مع من يظهر، أنه مسهم في الجريمة ويمكنه استجوابه بصفة مدعى عليه، المادة ٣٦٢ أ.م.ج. وأعطاه حق إصدار جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب النيابة العامة، الفقرة الأولى من المادة ذاتها، إلا ان هذا الحق ليس مطلقاً يمارس دون مراعاة الضوابط والنصوص القانونية الواجب احترامها عند اللجوء الى الادعاء بحق من يظن ان ثمة شبهة عليه. ومن هذه النصوص تلك المرتبطة بموضوع الحصانات على اختلافها ومنها الحصانة الممنوحة للقضاة. حيث نصت المادة ٣٤٤ أ.م.م. على ان محكمة التمييز تنظر بالجرائم التي يرتكبها القضاة سواء كانت خارجة عن وظائفهم أم ناشئة عنها أو بمناسبتها. ووفقاً لاجراءات نصت عليه المواد التي تلي هذه المادة. وقد استثنى القانون من تطبيق أحكام هذه المادة القضاة الذين حددتهم المادة ٣٥٤ أ.م.م. ومنهم النائب العام التمييزي حيث تجري محاكمتهم أمام هيئة قضائية خاصة مؤلفة من خمسة قضاة تُعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل. لذلك لا يمكن الادعاء على النائب العام التمييزي أو استدعائه للتحقيق بصفة مدعى عليه كما حصل في الإجراء الذي اتخذه المحقق العدلي حتى ولو كان النائب متنحٍ عن الملف. 
رابعاً، يدرك المحقق العدلي، انه حتى ولو أعطاه القانون صلاحية واختصاص وضع يده على الدعوى بصفة موضوعية، انه من حق النائب العام التمييزي أن يطلع على ملف الدعوى وان يبدي ما يراه من مطالعة أو طلب. هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإن المحقق العدلي يعي جيداً، أن اصداره للقرار الاتهامي يتوقف على وضع مطالعة بالأساس من قبل النيابة العامة التمييزية، وإذا لم تضع النيابية العامة التمييزية مطالعتها بالأساس، فلا يمكن للمحقق العدلي إصدار قراره الاتهامي وفقاً للمطالعة أو خلافاً لها بكليّتها أو ببعضها.
من هنا، فإن المحقق العدلي أخطأ التقدير في ما اتخذه من قرارات، لان بعضها مخالف للأصول المفروضة تحت طائلة الابطال، ولانه لا يستطيع السير بالملف الى نهايته إلا بالتعاون مع النائب العام التمييزي وليس بالتصادم معه. وهذا أدى الى حصول ردة فعل، كان خطأ مرتكبها أكثر فداحة من خطأ المحقق العدلي وخاصة ما أقدم عليه النائب العام التمييزي، الذي ارتكب خطأ في ثلاث نواحي:
الناحية الأولى، هي اقدامه على دخوله على ملفٍ، لم يعد في عهدته بعد احالته الى المحقق العدلي. فهذا الملف ومنذ احالته الى المحقق، أصبحت يده مرفوعة عنه. وان تمكين المحقق العدلي وضع يده بصفة موضوعية على الدعوى يجعله صاحب الصلاحية في تسطير المذكرات دون الرجوع الى النيابة العامة.
الناحية الثانية، ان مذكرات التوقيف الوجاهية أو الغيابية يصدرها المحقق الواضع يده على ملف الدعوى، كما استرداد المذكرات، أو إصدار قرارات إخلاء السبيل. وبالتالي فإنه ليس للنائب العام التمييزي صلاحية إصدار مثل هذه المذكرات، توقيفاً أو استرداداً أو إخلاءً. وأن ما أقدم عليه لا يندرج على توصيف إخلاء سبيل، وإنما إطلاق سراح الموقوفين من قبل مرجعية ليست صاحبة الصلاحية. وهو بهذا الإجراء ارتكب مخالفة قانونية ترتقي حدّ الخطأ الفادح.
الناحية الثالثة، هي المخالفة التي ارتكبها النائب العام التمييزي، بادعائه على قاضٍ هو برتبة محقق عدلي، بحيث يقع الادعاء عليه تحت أحكام المادة ٣٥٤ أ.م.ج. وليس المادة ٣٤٥ أ.م.ج. وهو بذلك ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه المحقق العدلي باستدعائه للتحقيق معه بصفة مدعى عليه.
ان الأخطاء التي ارتكبها المحقق العدلي والنائب العام التمييزي سواء كانت من موقع الفعل أو ردة الفعل، أماطت اللثام عن حقيقتين:
الأولى، ان الجسم القضائي يعيش حالة احتقان داخلي، وهذا ناتج عن اسقاط التجاذبات السياسية عليه. وفيه الاثبات الأكيد ان القول بان النظام في لبنان يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات هو كلام هراء ويجافيه الواقع القائم، حيث ان الوصاية السياسية مفروضة على هذا المرفق وخاصة على المواقع المفصلية فيه وهذا هو السبب الكامن وراء عدم إقرار استقلالية السلطة القضائية.
الثانية، ان العصي التي وضعت في عجلات التحقيق منذ بدايته، كانت تهدف الى منع الوصول بالتحقيق الى كشف الحقيقة في جريمة تفجير المرفأ وتحديد المسؤولين عنها مشاركين كانوا أو مساعدين او متسترين عليها.
وعلى هذا الأساس، فإن الذي شهده القضاء مؤخراً كان تنفيذاً لقرار سياسي اتخذ في الغرف السرية التي لا تريد للتحقيق أن يتوصل الى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، وان أخطر ما فيه، ان عملية إخراج الموقوفين من السجون الذي جاء بمعزل عن السياقات القانونية - بغض النظر عن مظلومية الموقوفين بعضهم أو كلهم - تشبه تلك التي تحصل عندنا تنهار الدول. ولذلك يمكن القول ان مسار انهيار الدولة وصل الى المرفق القضائي، وبانهيار القضاء تنهار الدول وهو ما تحدث عنه ابن خلدون عندما تحدث عن انهيار الدول. وهذا هو البُعد الفعلي للتجاذب الذي حصل بين مرجعين قضائيين، وكان يمكن حل التنازع حول الصلاحيات بينهما بالاحتكام الى القانون وهو الذي لم يحصل. بحيث بدا أن القضاء باتت تتحكم به العقلية المليشياوية وهي العقلية التي تدار بها شؤون الدولة.
من هنا، فإن الذي شهده المرفق القضائي كان خطير جداً، لانه أعطى إشارة واضحة لدخول مرحلة انهيار الدولة مرحلة متقدمة بانهيار مرفق أساسي من مرافقها، والخاسر الأصغر هي العدالة العامة في نظام التقاضي والعدالة الخاصة في جريمة المرفأ واما الخاسر الأكبر هو الدولة الوطنية برمّتها.

hasan_bayan@hotmail.com