بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيلول 2018 12:00ص صفحة بيضاء من زمن «هيبة الدولة» «الفرقة 16» تجرية رائدة لفرض النظام وسلطة القانون

شعار «فرقة 16» الذي رفعه القائد عزيز الأحدب فوق مدخل ثكنة الطوارئ  في بيروت، مقر الفرقة شعار «فرقة 16» الذي رفعه القائد عزيز الأحدب فوق مدخل ثكنة الطوارئ في بيروت، مقر الفرقة
حجم الخط
بعد أنْ عمّت الفوضى وانتشر الفساد في صفوف الشرطة وبعض القضاة، أواخر عهد الرئيس كميل شمعون، والذي شهد سقوط رموز المعارضة الوطنية، نتيجة الانتخابات النيابية عام 1957، وما رافق فضيحة القوّادة عفاف، المحمية من قضاة النيابة العامة وكبار مفوّضي الشرطة آنذاك، وجّه رئيس البوليس العدلي (قائد الشرطة القضائية) المفوّض العام الممتاز حسين نصرالله كتابا إلى المدّعي العام التمييزي فرنان أرسينيانوس يقول فيه: «إنّ مديرية الشرطة (التي كانت بإدارة صلاح اللبابيدي) قد انهارت! عمَّ الفساد معظم أفرادها. من الأفضل أنْ يكون على رأسها رجل عسكري من الجيش. المقدّم عزيز الأحدب أهل لهذا المنصب! وهو الإداري الصارم والرياضي المميّز وترضى عنه أكثرية اللبنانيين».
رفع أرسينيانوس الكتاب إلى الرئيس شمعون، الذي تباحث مع اللواء شهاب، قائد الجيش، بشأن تعيين الأحدب مديراً للبوليس، والذي لم يوافق لتوليه وظائف: ضابط الرياضة والرماية والتدريب في الجيش ولا يمكن الأستغناء عنه بحينها؟، لكن مع تسلّم الرئيس شهاب مهام الرئاسة أواخر أيلول 1958، أصدر المرسوم رقم 8 تاريخ 3/10/1958، الذي قضى بتعيين المقدم المغوار عزيز الأحدب مديراً للبوليس خلفاً للبابيدي.
كانت الشرطة تعاني انقسامات حادّة بين صفوفها، منهم مَنْ التحق بالمقاومة الشعبية برئاسة الرئيس صائب سلام وكمال جنبلاط، ومنهم مَنْ التحق بالأحزاب اليمينية، التي تدعم إدارة الرئيس شمعون، ولا هيبة للدولة، وقد قال الرئيس شهاب للمقدم الأحدب بعد تعيينه: «إنّ السلطة تستمد هيبتها من الأمن، وهذه مهمتك!.
باشر الأحدب مهامه فوراً، ووجّه نداء إلى رجال المديرية، يدعوهم للإلتحاق بمراكزهم، وأنّ الولاء للقانون وليس لزعيم الطائفة أو المتنفّذ السياسي، ولا زعامة تسمو فوق سيادة القانون.
انتدب للسفر بمهمة رسمية إلى الأردن مطلع العام 1959، واطلع على نظام الأمن فيها، حيث تتولّى فرقة مدرّبة ومميّزة تصفية الحوادث الفورية بسرعة، وهي مجهّزة بسلاح خفيف وفعّال ولباس مميّز، وينتقلون بسرعة في شوارع عمّان، لضبط المشاكل الفورية، وكانت تجربة ناجحة في ظل وجود مجموعات فلسطينية كبيرة فيها بنتيجة نكبة 1948.
باشر بتدريب كافة عناصر الشرطة على فنون الرماية والرياضة الإلزامية، ثم كلّف النقيب علي الحسيني، قائد فرقة الطوارىء، يعاونه المفوّض مختار العيتاني، وهو إبن عائلة بيروتية معروفة والرياضي المميز، انتقاء حوالى مئة عنصر بقامات مديدة، ولياقة بدنية مميزة، وفصلهم إلى معسكر تدريب المغاوير لدى الجيش اللبناني لمدّة ثلاثة أشهر، وعادوا متقنين لفنون القتال، وجهاً لوجه والرماية الدقيقة وسرعة الحركة في شوارع العاصمة.
انتقى لهم لباساً مميّزاً: «باريه» حمراء تتوسّطها «ف16» وجزمة نصفية، بندقية رشاشة خفيفة ومسدس سميث بكر، وشملة حمراء، يتحرّكون في جيبات صغيرة الحجم، سريعة وحديثة. تمَّ تركيزهم في السرايا القديمة على مقربة من قيادة الأحدب لمديرية البوليس.
تمكّن خلال أربعة أشهر من اٍستلامه مديرية الشرطة، مستعيناً برجال الفرقة 16 الأبطال، من:
1- إقفال أندية القمار المحمية في العاصمة، والتي يتقاضى منها بعض رجال الشرطة وبعض القضاة الإكراميات العالية مع كبار النافذين في الحكومة، لقاء استمرار عملها غير القانوني..
2- مكافحة شبكات الرقيق والمخدّرات، وتوقيف كبار المطلوبين، ومنهم تاجر المخدرات المشهور: سامي الخوري..
3- إقفال 39 بيت دعارة، خارج مقر السوق العمومي، الكائن خلف مقر مديرية الشرطة، والتي كانت تتمتع بالحماية..
4- منع الأوضاع الشاذّة في علب الليل والكباريهات، من توزيع المخدّرات وممارسة الألعاب الممنوعة، حيث يرتادها الأثرياء من اللبنانيين والعرب.
كان عديد الشرطة لا يتجاوز الـ300 عنصر، فأقدم على دمج الشرطة البلدية بالشرطة النظامية، ليرتفع العدد إلى 500 عنصر، وبذلك حقق عدداً أكبر من الدوريات على مدار الساعة، في كافة شوارع العاصمة: تراقب، تتدخّل بإشراف غرفة عمليات حديثة، بشجاعة ونزاهة ونظافة الكف، وتفرض هيبة السلطة التي طلبها الرئيس شهاب من المقدّم المغوار!. 
أثناء ولاية العميد ريمون إدّه مهام وزارة الداخلية (1958-1959)، ضمن حكومة الرئيس شهاب الأولى برئاسة رشيد كرامي: وهو الرئيس المباشر لمدير الشرطة، أشرف على تنفيذ الشرطة مهامها، وكان يشاركهم بعض المهمات الخطرة مع المقدّم عزيز الأحدب، لدعم المهمة وترسيخ هيبة الدولة ورفع معنويات القوّة الأمنية المكلفة بمهام خطرة..
منتصف العام 1959، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 138/59، تنظيم قوى الأمن الداخلي، والذي استحدث المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، برئاسة الزعيم الأوّل المتقاعد نور الدين الرفاعي، والتي ضمّت وحدات:
الشرطة القضائية بقيادة المفوّض العام الممتاز نسيب أبو شقرا، والدرك بقيادة الزعيم سمعان والمعهد بقيادة المقدّم يوسف الحركة، وعُيّن المقدّم عزيز الأحدب قائداً لوحدة شرطة بيروت، والذي استحدث سرية الطوارىء، التي استقرّت في ثكنة إميل الحلو غربي العاصمة، وجرى تطوير وتجهيز دوريات «الفرقة 16» عدّة وعديداً، فألقت الرعب في نفوس المجرمين المحترفين والنشّالين ومروّجي المخدّرات، واستحقت شكر وتهاني وزير الداخلية والمدير العام لإنجازات مميّزة بسرعة الوصول الى مكان الحادث من قِبل الدوريات المتجوّلة أو المتمركزة وتوقيف الجناة والمطلوبين وضبط الممنوعات بجدارة مميزة.
أما أبرز إنجازات الأحدب و«الفرقة 16» فتمثّل بتوقيف إبراهيم النابلسي، المعروف بالتكميل عام 1959، والذي خطف ثلاثة شبان مسيحيين، كانوا في طريقهم من الأشرفية الى المطار، وقتلهم.. وكشفت الشرطة مكان إخفائهم في بئر كائن في محلة البسطة، ولجوئه الى منزل أحد قبضايات المحلة، وقد أثار هذا الحادث غضبا شديدا لدى القيادت السياسة الدينية المسيحية، التي هدّدت بخطف مضاد ردا على اختفائهم.
جهّز الأحدب، مدير الشرطة، نخبة الشجعان من «الفرقة 16»، واقتحم مقر الجاني، وأوقفه بجرأة وشجاعة مع رجاله، الذين ضبطوه مع أسلحته والذخائر، فارتاحت النفوس ورسّخ الأحدب وعناصر «الفرقة 16» هيبة الدولة كما طلب الرئيس شهاب. وقد أُعدِمَ التكميل بعد محاكمة سريعة أمام المجلس العدلي خلال فترة لم تتعد الأشهر الثلاثة.. أثنى الرئيس شهاب شخصيا على جرأة «الفرقة 16» وكفاءتهم بقيادة المغوار عزيز الأحدب الموثوق من رئيس البلاد.
كما تكمنت هذه الفرقة المميزة من توقيف أخطر المجرمين في بيروت ومنهم:
أرتين الأسمر، الذي كان يتمتع بحماية قوية، وهو المطلوب بمذكرات عدلية بجرائم القتل والسلب.
والأطرف أن أرتين كرّر أكثر من مرّة أمام المستنطق أثناء أستجوابه بأنه لا يخاف إلا من «الفرقة 16»، التي حقّقت إنجازات أمنية مميّزة، وأصبحت تسيطر على الشارع بقوّة بعدما كانت المقاومة الشعبية والأحزاب تنشر نفوذها سابقا.
واستمر القائد المغوار عزيز الأحدب، قائدا لوحدة شرطة بيروت، حتى أواخر العام 1962، حين عاد الى الجيش، وبعد أن أطمأن إلى أنّ ما أسّسه مطلع العام 1959، باستحداث «الفرقة 16»، ستستمر قوية ومهابة، يجمع عناصرها الخضوع للقانون والولاء للوطن، وأنّ أفراد الدورية متعدّدي المذاهب والطوائف هم كتلة واحدة هدفها التصدّي للجريمة، والتحرك بسرعة وبقوّة لتوقيف المعتدي وضبط الأدلة بعيدا عن الفساد الذي ساد لحقبة طويلة، وإظهار هيبة الدولة الذي أرسى مداميك أدارتها الحديثة اللواء الرئيس فؤاد شهاب. (1958-1964).
استمرّت دوريات «الفرقة 16» تغطّي شوارع العاصمة، عبر دوريات سيّارة أو متمركزة أو مشاة، بحسب تعليمات غرفة العمليات المرتبطة بالقائد الساهر على بسط الأمن وتوطيد النظام ونشر الطمانينة بين الناس، الذين اكتوا بنار أحداث العامين 1957-1958، وقد تمكّنت إحدى هذه الدوريات من توقيف عدنان سلطاني، قاتل الصحافي كامل مروة، صاحب جريدة الحياة، الصادرة في بيروت، عام 1966، بعدما أطلق عليه النار في مكتبه وسط بيروت، وفرَّ منتقلا بسيارة أجرة، لكن صراخ الناس:حرامي، حرامي! لفت نظر الدورية المتمركزة في محلة خندق الغميق، وبمؤازرة أحد الحراس الليليين، الذي لاحق الجاني، وأعلم الدورية التي أوقفته وضبطت المسدس، وأودع التحقيق، وحُكِمَ عليه بال‘عدام وأنزل الحكم لاحقا الى المؤبد، لكنه فر من السجن مع غيره أثناء الحرب اللبنانية!!!
أين هيبة الدولة هذه الأيام، حيث تكثر حوادث إطلاق النار التي تتسبب بضحايا بريئة، وانتشار السلاح غير الشرعي بين الناس، وأزمة وجود أكثر من مليون ونصف مليون سوري على أرضنا لأسباب إنسانية، (أكثر من ثلث سكان الوطن)، وما يتطلبه ذلك من تدابير بوليسية لتثبيت الأمن والأستقرار، وتنشغل القوى المسلحة الشرعية بالتصدّي لمخططات الإرهاب الذي يستهدف الوطن، وأضحت مناطق بعيدة عن سلطة الدولة، يلجاء اليها المطلوبون!!، إضافة الى آلاف رخص حمل السلاح الحربي للمدنيين من قِبل وزارة الدفاع، ومنح بعض الأجهزة العسكرية والأمنية وثائق تسهيل المرور لأشخاص بعضهم مشبوه، بحجة تقديم معلومات اليها، فأضحى الشرطي ليس عاجزا عن ضبط السلاح غير الشرعي، وإنّما قصوره عن تأمين السير على التقاطعات في العاصمة.
ترى هل نحن بحاجة إلى أعادة الهيبة الى السلطة عبر تثبيت الأمن، وخلق دوريات فاعلة قوية أسوة بما استحدثه القائد الأحدب أواخر الخمسينات «الفرقة 16»، مجهّزة ومدعومة من كافة الأحزاب والتنظيمات التي عليها أن تقتنع بأنّ استمرار ضعف هيبة السلطة يخلق البيئة الصالحة للمجرمين لارتكاب جرائمهم ويجعل مستقبل شباب الوطن مجهولاً أو الى الخارج، وإذا هاجر شبابنا هذا الوطن من يشكل القدرات الفكرية والإنتاجية والإبداعية فيه، وحيث يبدع أبناؤه أفرادا بالخارج بينما تفشل دولته بخلق مقومات البقاء لهم هنا، في وطن يخطّطون لتطويره وإبراز مواهبهم، واستعادة لبنان سويسرا الشرق أمنا وثقافة وخدمات لكل ابنائه والقادمين الى ربوعه؟

* قائد سابق للشرطة القضائية.
* محلل جنائي أستراتيجي.