بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 شباط 2024 12:07ص عقد المواطنة

حجم الخط
سقط لبنان عندما سقط عقد المواطنة بين لبنان الوطن وشعبه اللبناني. يبدأ عقد المواطنة مع ولادة كل شخص في الوطن أو البلد الذي يولد فيه. فالإنسان يولد على هذه الأرض بحضن عائلة وبيئة ودين ووضع اجتماعي معيّن ومنذ ذلك الحين يبدأ عقد المواطنة مع هذا البلد أو الوطن. فالوطن يعطيك الأرض والبيئة والتراث والتاريخ والحضارة والأمن والأمان والإنسان يربو ويكبر ويتعلم ويعمل ويتفاعل مع هذه البيئة تفاعل حضاري اجتماعي اقتصادي سياسي ثقافي وحصيلة هذه العلاقة بين الأرض والوطن والإنسان يتكوّن ويتطوّر عقد المواطنة الذي يلخص ربما بالحقوق والواجبات تحت سقف الدستور والقانون. من خلال هذا العقد ينمو مفهوم تعلق الإنسان بوطنه وأرضه. هذا العقد يضمن المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين جميعا فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات تجاه الوطن. هذه الصيغة هي أساس وجود الأوطان وديمومتها لتطوير الوطن والنهوض به في العالم.
فمنذ إنشاء دولة لبنان واستقلاله سنة 1943 ولبنان يحاول ويناضل لتثبيت عقد المواطنة بين الشعب والوطن وكان ذلك من خلال مجهود شخصي بين الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح وتكلل بالميثاق الوطني. في سنة 1958 سقط عقد المواطنة بسبب الرئيس عبد الناصر والوحدة بين مصر وسوريا ومحاولة اقحام لبنان للانضمام إلى هذه الوحدة وحاول بعدها الرئيس فؤاد شهاب لملمة الوضع والمضي قدما وعمل إصلاحات في الدولة. حتى سنة 1969 عند دخول حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وإبرام اتفاقية القاهرة حيّز التنفيذ التي أخلت بموازين القوة في البلد الضعيف واستباحت حدوده وسقط العقد مرة أخرى.
في سنة 1975 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وقد أسقطت ما تبقّى من عقد مواطنة في ذلك الحين بين مكونات المجتمع اللبناني مسلمين ومسيحيين. ثم جاء بروز رفيق الحريري مهندس اتفاق الطائف سنة 1993 الذي من خلاله حاول المجتمع الدولي نسج عقد مواطنة جديد على أساس «لبنان أولا» حيث لبنان يبقى فندق ومدرسة وجامعة ومستشفى للعالم العربي من دون دور سياسي بسيطرة سوريا. تجاوز الرئيس الحريري حدود مهمته وأزعج البعض في الإقليم وجاءت مشاكل 11 أيلول بنيويورك ونسج تحالف عالمي لصد التمدد السنّي من خلال دخول القوات الأميركية إلى العراق واسقاط نظام صدام حسين ومن ثم تنظيم تحالف إسرائيلي فارسي بموافقة دولية أدّت إلى إنتاج وتمدّد الهلال شيعي في المنطقة. في سنة 2000 انتصار المقاومة اللبنانية حزب الله وتثبيت التحالف مع إيران ودول الممانعة ومرة أخرى سقط عقد المواطنة وابتدأت فكفكة الدولة اللبنانية. سنة 2006 حرب حزب الله مع إسرائيل وتدمير البيئة التحتية اللبنانية. ابتدأ عهد الرئيس ميشال عون وتحالف مار ميخايل مع حزب الله أسقط آخر مدماك في عقد المواطنة وابتداء سقوط الدولة اللبنانية بكل مكوناتها. وتجلّى سقوط عقد المواطنة بالتصاريح بالفم الملآن لبيئة الحزب لانتمائهم لدولة ولي الفقيه والعمل على الوصول إلى هذا الهدف من دون مواربة وإقحام لبنان كبلد مواجهة مع إسرائيل لأجندات مشبوهة لتحفيز الموقف الإيراني في مفاوضاته مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على الملف النووي الإيراني. وبقي الوضع على حاله حتى يومنا هذا مع المرور بأحداث ثورة 2019 وتدمير الوضع الاقتصادي والمالي للإنهاء والقضاء على مفهوم عقد المواطنة.
لقد حاولت بطريقة مقتضبة وغير مكتملة أن أبرهن أن عقد المواطنة في لبنان يترنّح منذ إنشاء دولة لبنان وهذا هو السبب الأساسي لهلاك لبنان وإمكانية زواله لأن عقد المواطنة عقد هزيل لا جذور له في ظل التركيبة اللبنانية الجهنمية المبنية على المحاصصة المذهبية والولاء للقبيلة والعشيرة والعائلة والحزب قبل الولاء للوطن. ولطالما استهزأنا بعقد المواطنة لطالما سقط لبنان الحضاري الذي عرفناه لفترة قصيرة وتمنيناه. هذا التوجه المتخلف هو ما كلف لبنان واللبنانيين دفع أغلى الاثمان وخسارة وطنهم لبنان.
عقد المواطنة عقد شبه إلهي بين المواطن والوطن لا مساومة عليه فهو كتلة متكاملة لا تتجزأ تتجلّى بمبدأ الحقوق والواجبات التي تلزم الفريقين بهذا العقد فالمواطن ملزم بواجبات وولاء تجاه الوطن والوطن ملزم بضمان حقوق المواطن وأمنه وسلامته وكل ذلك تحت سقف الدستور والقانون وهو ضامن هذه العلاقة والعقد.
إن تشاؤمي في هذه الأيام ناتج من الوضع العام في لبنان من مبدأ سقوط هذا العقد ولا أرى محاولة من أحد لإنقاذ ما تبقّى من العقد - عقد المواطنة الذي يجب أن ننتمي إليه جميعا بدون استثناء وبدون مساومة على مضمونه لا وطن من دون هكذا عقد ولا عقد من دون وطن.
الفرقاء الذين يراهنون على عقد اجتماعي جديد يفبركونه على مقاسهم وحسب موازين القوة الجديدة هم واهمون لأن ولا عقد غير عقد المواطنة وهو المشروع الطبيعي الوحيد الذي يمكنه أن يصمد في وجه كل هذه التغيّرات والتحديات.
لبنان لن ينهض ولن ينجو إلّا بعقد مواطنة حقيقي بينه وبين أهله الأحرار من كل الطوائف يتفاعلون مع بعضهم البعض على هذه الأرض الحبيبة أرض لبنان ليبنوا من جديد لبنان الرسالة التي نطمح إليه جميعا منارة العالم العربي والشرق.