بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 آذار 2022 09:04ص «فنلندنة» أوكرانيا

حجم الخط

هلسنكي عاصمة فنلندا والكاتب الليبي الراحل صادق النيهوم، اسمان ارتبطا في ذاكرتي بعلاقة غريبة؛ إذ ما إن يذكر أحدهما أمامي، حتى ينبثق فجأة في ذاكرتي الآخر. أحياناً، تنتابني حيرة وراء الأسباب التي دفعت الصادق النيهوم، رحمه الله، إلى اختيار ذلك البلد الشمالي البارد والبعيد، ليكون مقر إقامة له لسنوات عدة، وهو القادم من صحو ودفء مدينة بنغازي، على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط.

اسم فنلندا، في الوقت الراهن، فجأة عاد، من خلال الحرب الأوكرانية، إلى الطفو على سطح الأخبار والتقارير الإعلامية. الظهور المفاجئ كان نتيجة عوامل عديدة؛ أهمها أن هلسنكي جارة موسكو، بحدود تتجاوز ألف كيلومتر، أفصحت، مؤخراً، عن رغبتها في الانضمام إلى حلف الناتو. طلب الانضمام حظي بموافقة شعبية تصل إلى 70 في المائة، حسب استبيانات الرأي العام. فنلندا صارت عضواً في الاتحاد الأوروبي منذ عام 1991، أي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كانت تربطه بها علاقة ذات خصوصية، لم تحظَ بها أي من الدول المجاورة، تحددت أُطرُها عقب فشل الغزو السوفياتي عام 1939، الذي شنّه جوزيف ستالين ضد فنلندا، بغرض إعادة ضمها إلى الاتحاد السوفياتي. فنلندا كانت جزءاً من أملاك قيصر روسيا، واستقلت خلال ثورة 1917 البلشفية. وأراد ستالين استردادها، لكنّ الجيش الأحمر السوفياتي لم يتمكن من دخول هلسنكي، نتيجة ما أبداه الفنلنديون من بسالة في الدفاع عن بلادهم. ذلك الفشل، أدى بدوره إلى انسحاب الجيش الأحمر، كما نجمت عنه، عبر التفاوض، نتائج سياسية مهمة، أهمها محافظة فنلندا على استقلالها مقابل التأكيد على حيادها في الحرب الباردة، ومنح موسكو «فيتو» على مسار سياستها الخارجية، بشكل يقلص من سيادتها، وحرية قراراتها ذات الصلة بسياستها الخارجية.

في عام 1958 اضطرت الحكومة الفنلندية آنذاك إلى تقديم استقالتها، بسبب عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات ذلك الفيتو السوفياتي. لكن تلك الوضعية الخصوصية، يقول معلقون غربيون، كانت لها إيجابيات عديدة؛ أهمها أنها بنيت على ثقة، وأن السلم الناجم عنها مكّن فنلندا من إعادة بناء نفسها بعد الحرب، أضف إلى ذلك، أنها أدّت بالقيادات في البلدين إلى عقد اجتماعات دورية، ووضعت الأساس لعلاقات تجارية متينة بينهما.

كانت فنلندا مَصدراً لحصول السوفيات على التقنية الحديثة، وكان الاتحاد السوفياتي مَصدراً لحصول فنلندا على المواد الخام لكثير من صناعاتها. اللافت للاهتمام أن الفنلنديين تعلموا من الغزو السوفياتي درساً مهماً، وهو أن يظلوا دائماً على حذر مستقبلاً. لذلك، وعلى عكس دول أوروبا، لم يلغوا التجنيد العسكري الإلزامي، بل وفي مرحلة تالية فُرض أيضاً على الإناث. لذا، استناداً إلى تقارير وإحصائيات عسكرية غربية، صار بإمكان فنلندا توفير قوة عسكرية تقدر بنحو 300 ألف مقاتل، أي قوة عسكرية ضاربة، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 6 ملايين نسمة.

خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، بغرض إيجاد حل للأزمة الأوكرانية، اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما أطلق عليه (فنلندنة أوكرانيا - Finlandisation of Ukraine) وتعني منح أوكرانيا وضعية مع روسيا، مشابهة للوضعية التي حظيت بها فنلندا مع الاتحاد السوفياتي، مقابل وقف الحرب. الاقتراح قوبل باستهجان غربي، ورفضته القيادة الأوكرانية شكلاً ومحتوى.

إخفاق الاقتراح الفرنسي في التأهل، كما يؤكد معلقون، راجع لكون الوضع الفنلندي مع الاتحاد السوفياتي، ومن بعد، دول الغرب الأوروبي، يختلف عن الوضع الأوكراني. ويرى المعلقون أن الاتحاد السوفياتي والغرب وجدا أن من صالحهما الحفاظ على وضع فنلندا بعد الاستقلال في موضع وسطي، استفاد منه الطرفان. لكن في الوضع الأوكراني الأمر يختلف، لأنه وضع تأسس على معادلة تعادلية صفرية (Zero Sum Game)، لذلك من الصعوبة بمكان رؤية أوكرانيا تتبع نفس النهج.

لكن، من وجهة نظر شخصية، واستناداً إلى تجارب تاريخية عديدة، وما يحدث في ميادين المعارك في أوكرانيا، وقياساً على ما حدث بين فنلندا والاتحاد السوفياتي عام 1939، يمكن القول إن ما كان مستحيلاً سياسياً في بداية الحرب، قد يصير ممكناً بعد شهر من حدوثها، بناء على سير المعارك، وانقلاب الموازين والحسابات، وأن الاقتراح الفرنسي قد يعود إلى الظهور مجدداً على طاولات التفاوض، وبتغييرات تتفق والوضع الدولي الحالي، انطلاقاً من أن «فنلندنة أوكرانيا» تظل بوابة ما زالت مفتوحة، وفرصة أخيرة متبقية تستحق المناقشة، وباحتمال أن تكون حلاً للأزمة.

المصدر: الشرق الأوسط