بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 آذار 2020 11:03ص كورونا العالمية الأولى: إنقلاب في أساليب التفكير وقواعد السلوك

«كوفيد 19» فيروس ستطبع تداعياته القرن 21 على الصعد كافة «كوفيد 19» فيروس ستطبع تداعياته القرن 21 على الصعد كافة
حجم الخط
في خضم الصراعات السياسيّة والإقتصادية والأزمات الإجتماعية التي شهدها العالم منذ بداية الألف الثالث، ارتسمت في أكثر من محطة ملامح حرب عالمية ثالثة ربما وضعت نتائجها حداً للواقع المأزوم لدى معظم أطراف الصراع وتؤسّس لمرحلة جديدة تطبع مسار الأمم والشعوب ربما لقرنٍ كامل.

 اختلفت التوقعات والسيناريوهات  المفترضة، لكن أحداً لم يتوقع ظهور جرثومة صغيرة تجتاح الكرة الأرضية بسرعة قياسية بلا وازع أو رادع لا من دولة عظمى ولا من شعوب العالم الثالث، فكانت أقوى من أي سلاح وأعتى من أي حرب، وهي مستمرة لأن أحداً لم يدحرها بعد، لتفرض نفسها "كورونا العالمية الأولى" بدلاً عن الحرب العالمية الثالثة الضائعة. فالحروب التي اندلعت عبر التاريخ كانت لها ساحات محددة وأسلحة متنوعة، بينما كورونا العالمية الأول إتخذت من جميع أنحاء المعمورة ساحة موحدة بسلاح واحد هو الجرثومة التي تصيب دون أن تُصاب والتي تزعّمت بشراستها كل ما شهده العالم منذ فجر التاريخ من أوبئة، ليس هذا فحسب بل إن كورونا العالمية لم تنتظر النهاية لتحدث واقعاً جديداً، بل فرضت قواعد جديدة لا نقاش فيها ولا جدل، وما على شعوب الأرض وأنظمتهم سوى الإمتثال أمراً وطاعةً. ورغم ذلك لم يتمكّن أحد من التفلّت من تلك القواعد ولم يتجرأ أحد على المكابرة.

 وها هي "كورونا" تتحوّل الى ظاهرة تستحق أن يدرسها علماء الإجتماع من حيث مفاعيلها وإنعكاساتها على المستويات الإجتماعية والثقافية وحتى السياسية والإقتصادية، مفاعيلٌ لم تتأخر في الظهور ولا يمكن لعاقل ان يتصوّرها من قبل. فالمتعارف عليه أن الناس تلجأ الى العصيان المدني والإضرابات كوسيلة ضغط على السلطات الحاكمة لكن واقع كورونا جعل تلك السلطات توقف العمل في معظم إداراتها وقطاعاتها الإنتاجية ومهنها الحرة ما خلا بعض الإستثناءات الضرورية وتدعو مواطنيها الى ملازمة منازلهم والإحتماء بالنظافة الفائقة كحماية للفرد والأسرة من هذا الوباء الشرس، نظافة تبدأ من الشخص وتمتد الى سلامة وجودة الغذاء ونوعية الإنتاج الزراعي والأسمدة المستعملة.

الجميع بات مدعواً لممارسة الحجر الصحّي وربما كان ذلك من الفضائل عند توجّبه، ولنا عودة الى ما ورد عن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم قوله عن الوباء: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه".

حتى العادات والتقاليد الإجتماعية إنتهت فجأة فغابت المصافحة بالأيدي بل باتت القفازات تغطيها، وتوقف العناق وباتت الوجوه مغطاة بالكمّامات، وعُلّقت الزيارات المتبادلة، وحتى الموتى باتوا يوارون في الثرى دون مآتم. وفي المقابل، هبّ مواطنون لنجدة أبناء جلدتهم ممن فقدوا سبل عيشهم الكريم وظهرت مبادرات التكافل من مواطن الى آخر لمساعدته على التغلب على قسوة الظروف المحمولة على أجنحة الكورونا وإمدادهم بسبل إستمرار الحياة وهذا يمثل قيمة إجتماعية كبيرة يمكنها تحقيق ما قد تعجز عنه الحكومات لوحدها. 

حتى التعليم الذي كان مرتبطاً بالحضور على مقاعد الدراسة ومطعّماً بالوسائل الإلكترونية المُساندة، توقّف ليحلّ محله التعليم والتعلّم عن بُعد بفعل إقفال المدارس والجامعات في معظم دول العالم نتيجة تفاقم إنتشار الوباء القاتل. 

حتى المفاهيم والأسس العلمية لم تعُد تنطبق على الواقع السائد، فالتدخل المهنيّ للخدمة الاجتماعية فور وقوع الكوارث يتناول النواحي الهامة في التعامل معها على المستويات التنظيمية وأبرزها الإعداد الإداري والتنفيذي لعمليات المساعدة الفورية لجميع المنكوبين، لتتعامل مع محنتهم بأسلوب مهني وعلمي يستند إلى المعرفة ويوفر عامل الطمأنينة للمجتمع الذي يواجه الكارثة.

 أما كارثة الكورونا فغيّرت مجمل تلك القواعد بدءاً بانهيار الأنظمة الصحية التي باتت تعجز عن تقديم المساعفة الى جميع المُصابين ولا غرابة في أن تصل بعض الدول المنكوبة بالوباء الى المفاضلة بين هؤلاء لتحديد الأجدر بالتدخل الطبي ليُمنح فرصة الحياة، وهذا ما يُضاعف من وطأة الكارثة ويطرح على بساط البحث ضرورة التدخل الإجتماعي المُفترض أن يكون عملية التأثير الإيجابي والفعّال ومستوى التوظيف النفسي والاجتماعي للفرد أو للأسرة أو للجماعة في موقف الأزمة. ذلك إن المُصاب وأسرته ومحيطه الإجتماعي يصبحون أكثر إعتماداً على الإختصاصي الإجتماعي وأقلّ ميلاً للإستقلالية، ما يجعل من هذا الأخير أساساً في مواجهة المشكلة ويتعيّن عليه أن يكون صريحاً معهم فلا يقلل من حقيقة الكارثة وينظر الى طلباتهم على أنها عامل قوة وليس ضعف، ويسعى الى تحقيق هدف عاجل يتمثل في تمكين الفرد من استعادة توازنه عن طريق إعطائه جرعات من المساندة والتعاطف والواقعية، وصرف المساعدات العينية المباشرة، كمقدمة لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في إرشاد الفرد الى الجهات التي تساعده في حل الأزمة، وتوزيع المسؤوليات بين أفراد الأسرة. 

من هنا تبرز أهمية التدخل الإجتماعي عبر الإختصاصيين المؤهلين ولا سيما في زمن إنتشار وباء كورونا، على أن لا يقتصر هذا التدخل على الأفراد فقط، ليشمل الأسر والجماعات والمجتمعات، لأن المواقف خلال الكارثة لها ارتباط وثيق بدور الأسرة وحالة عدم التوازن التي تمر بها، ولأن الجماعات تستخدم كأدوات علاجية خصوصاً عند وجود أفراد ضمنها ممن لديهم خبرة أزمة مشتركة في آن واحد. أما على مستوى المجتمع المحلي فيستخدم كمدخل لبرامج الوقاية الأولية أو التدخل المهني المبكر الذي يتميّز خلال الكوارث بِخصائص تختلف عن الخصائص التقليدية لمُمارسة الخدمة الاجتماعية، سواء في نطاق طرق الخدمة الاجتماعية الثَّلاث (خدمة فرد،خدمة جماعة، تنظيم مجتمع)، أو في مجالاتِها النوعية المختلفة من تربوية، تعليمية، طبية أو نفسيَّة، ليصبح نَمطاً من العمليّات والإجراءات العملية العلاجية في إطارٍ من الشمول ليتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 لكن ذلك لم يعد وحده يفي بالغرض أمام حجم الكارثة التي أنجبها وباء كورونا ما لم يقترن بسلة من الخدمات والمساعدات الاجتماعية التي لا بد أن تضطلع بها الدولة بمؤازرة القطاعين الخاص والأهلي، والتي يصعب تحديدها وفي مقدمها المساعدة الغذائية للعائلات الأكثر تأثراً بوقف العمل الذي طال مصدر رزقهم الإعتيادي، وتوفير مبالغ مالية معقولة لدعم الأشخاص الذين فقدوا عملهم نتيجة إعلان التعبئة العامة وغير المشمولين بأي شبكة أمان صحية لتأمين أدويتهم الازمة، كما ومساعدة التلامذة والطلاب على تأمين مستلزمات متابعة التعليم عن بُعد، إضافة الى الدعم النفس إجتماعي الهادف إلى حماية وتعزيز العافية النفسية الاجتماعية والحدّ من المشاكل النفسية والوقاية منها أو علاجها في حال حدوثها، وتهيئة الظروف المُساعِدة في شفاء المجتمع ولا سيما على المستويات الروحية والدينية والثقافية، مقرونة بالخدمات الصحية المساعدة للأطفال الصغار، وللمصابين بأزمات ومشاكل نفسية واجتماعية مع مراعاة الاعتبارات النفسية والاجتماعية السائدة في المجتمع.

هذا غيضٌ من فيض، ومن يدري لعلّ الآتي أعظم، بغياب أي دلائل على السيطرة على الوباء ووضع حدّ لآلة الموت التي تزرع الهلع وتنشر الرعب بلا هوادة، لكن الثابت والأكيد أن التداعيات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية لأزمة كورونا العالمية، ستكون موضع نقاشات وأبحاث للنتائج المتأتية لدى معظم الشعوب والأمم وما ستحمله للمستقبل من تغيّرات في أساليب التفكير وقواعد السلوك على جميع المستويات. فهل يكون الوباء جسر عبور الى عالم جديد؟