بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 نيسان 2020 03:17م يعزلون أنفسهم ويرفضون الحداثة.. ماذا تعرف عن طائفة «الأميش»؟

حجم الخط

في نمط حياة بعيد كلّ البعد عن ما يعتبره الآخرون مقوّمات أساسيّة للبقاء، عيش طائفة الأميش في مجتمعاتٍ صغيرةٍ تتألَّف من قرابة 20 أسرةً، محتشدةً حول كنائس تضع قواعدها بنفسها، يمكن أن تجدهم الآن في 30 ولايةً أميركية، بالإضافة إلى كندا والأرجنتين وبوليفيا.

هذه الطائفة المتحدثة بالألمانيّة، والتي تطالب بحياة بسيطة من الاعتماد على الذات بناءً على تعاليم الإنجيل، ربما تختلف مع سائر المجتمع اليوم، لكن على نحوٍ مفاجئٍ، فهي مزدهرةٌ، ولم تنطفئ شعلتها في عالمٍ سريع التطور متمثّل في الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي.


"دانييل ويفر"، لا يدلي بصوته في الانتخابات، ولا يقود سيارةً، ولا يقرأ الصحف، ولا يستمع إلى الموسيقى، ولا يشاهد أيّة رياضةٍ من أيّ نوعٍ، ولا يملك هاتفًا محمولًا، ولا يستعمل حاسوبًا. لكن في أثناء تناولنا الطعام المزروع في حديقته خارج النافذة، يعترف بأنّه قد شاهد فيلمًا ذات مرةٍ. ويأبى أن يكشف عن ماهيّة الفيلم، متجاهلاً الأسئلة أثناء الحوار حول مائدة العشاء برفقة زوجته، وخمسة من أبنائه الثمانية وحفيد واحد. يقول: "لست فخورًا بذلك. لقد عصيت رغبة والديَّ بالذهاب".

لكنَّ هذه الحادثة المنفردة منذ سنواتٍ طوالٍ تفسِّر الأسباب التي جعلت صاحب الـ 52 عامًا يبيع شركة ملابسه الرابحة في أوهايو، وهي شركةٌ كانت تورِّد البضائع لمئات المتاجر في أرجاء أميركا الشمالية، وينتقل مع أسرته إلى هذه المزرعة الشاعرية شمال نيويورك منذ ثلاث سنواتٍ.

ينتمي دانييل إلى الأميش _ وهو مجتمع يشتهر على مستوى العالم بثيابه البسيطة واستخدامه العربات التي يجرُّها الخيل _ ويخشى على أبنائه وكنيسته وعالمه المسيحيّ التقليدي من تأثير الحداثة وإغواءات التكنولوجيا. يقول دانييل لصحيفة "The Guardian” إنّ "قِيَمنا مختلفةٌ واخترنا أن نحفظها. لكن إذا تراخَى قومنا واحتكُّوا بالعالم أكثر مما يجب، فربما لن يبدو عالمنا مختلفًا، وسنصبح مثل الناس في الخارج".

عوضًا عن هذا، عاد دانييل إلى تقليده الأميشي المتمثل في الزراعة، والتمتع بأسلوب حياةٍ بسيطٍ يتحاشى أشياء يعتبرها بقيتنا جزءًا من نسيج الحياة، مثل التلفزيونات وأحزِمَة السراويل، خشية أن تُلهِي المرء عن الإخلاص للرب، وفق ما يقول.

الجماعة الدينيّة الأسرع نموًّا

في عام 1989، كان هناك ما يقرب من 100 ألف من الأميش متفرِّقين في 179 مستوطنة في أنحاء أميركا الشمالية. ووَجد تحليلٌ أجراه مؤخرًا بعض الأكاديميين في جامعة إليزابيث تاون في ولاية بنسلفانيا أنَّ عدد أفراد الأميش ارتفع إلى 330265 في 546 مستوطنة. لذا فهي الديانة الأسرع نموًا على سطح القارة، وهناك تنبؤاتٌ بأنّ أتباعها قد يتعدُّون المليون بحلول عام 2050. ويدلُّ هذا على تحوُّلٍ استثنائيٍّ: إذ كان هناك 5000 من الأميش فقط في أميركا قبل قرنٍ واحد.

ولعلّ الشيء الأبرز هو أنَّ أسباب هذا التفجر السكَّاني لا تقتصر على عائلات الأميش التقليدية الكبيرة. فهناك أطفالٌ يختارون طواعيةً البقاء في المجتمعات الصغيرة، ويقاومون جاذبيّة النوادي والرياضة والموسيقى والتكنولوجيا.

يقول مايكل، أحد أبناء دانييل الذكور الأربعة صاحب الـ 15 عامًا، أثناء تناوله حساء الطماطم: "سمعت كثيراً عن فيسبوكFacebook ، لكنّه يبدو مضيعةً للوقت. يمكن أن أفعل أشياء أنفع بكثيرٍ من الذهاب إلى الحانات أو قضاء الوقت في النظر إلى هاتفٍ".

وليست فقط الحواسيب والسيارات هي التي تُدير لها العائلات ظهورَها، بل يرفض كثيرٌ من الأميش منابع الكهرباء والبعض يرفض السباكة الداخلية، بينما يجب على الزوجات اتباع أوامر أزواجهن، والطلاق يُعَد إثمًا لا يُغتَفَر. ويؤدِّي الأطفال الأعمال المنزلية منذ نعومة أظافرهم. إلا أن وراء تلك اللِّحَى الطويلة المميزة لدى الرجال والقلنسوات البيضاء لدى النساء، عقولاً تجاريّة ذكيّة، في ظلِّ ارتفاع أعداد المليونيرات بشدة.

مجموعة من نساء الآميش

عوامل مختلفة عزلتهم عن بقية العالم

أدّى عددٌ من العوامل، مثل إنهاء التجنيد الإجباريّ في الولايات المتحدة عام 1973، الذي أرغم شباب الأميش الذكور (بصفتهم معارضين للخدمة العسكريّة) على تأدية أعمال مجتمعية، والتوجُّه الأحدث المتمثل في تعليم أطفال الأميش في مدارسهم الخاصة، إلى الحدِّ من التفاعل مع العالم الخارجي. وقد عزَّز هذا حسَّ الانفصالية وترتَّب عليه ارتفاعٌ في معدَّلات الالتزام بالديانة عن السنوات السابقة للحرب العالمية الثانية، حين كانت الخلافات مع المجتمع الأشمل أقل حدَّةً.

يعدّ مجتمع الأميش في نيويورك من المجتمعات الأسرع نموًا، إذ توجد به 58 مستوطنةً يقع معظمها شمال الولاية. وينجذب المستوطنون نحو الأراضي الأرخص ثمنًا من معاقل الأميش في ولايات أوهايو وإنديانا وبنسلفانيا (وهي التي ظهرت في الخلفية المتألقة لفيلمWitness ، بطولة هاريسون فورد حيث يلعب دور شرطيٍّ يختبئ وسط مجتمع الأميش). وفي بلدة موريس السوقية الصغيرة، حيث يعيش آل ويفر حاليًا، ثمة سبع أُسَرٍ من الأميش يعيشون في منطقةٍ شَهِدت كساد عشراتٍ من المزارع الصغيرة.

ولكن يبدو أن جيرانهم يرحِّبون بهم، لا سيما لأنهم أعادوا إحياء مزارع مهجورة. يقول ليزلي ستروه، وهو ناشرٌ كان يعمل في حقول دانييل في صباه: "إنهم محبوبون هنا. لا يندمجون مع الآخرين، ولمَ ينبغي لهم ذلك؟ لكنهم ما زالوا يفتحون أذرعهم لنا".

مع ذلك، نشبت توتُّراتٌ في مناطق أخرى بسبب بعض المشكلات، مثل روث الخيل على الطرق، ورفض تركيب كشافات الإضاءة التحذيرية على العربات.


تقاليد يصعب التمسك بها

جديرٌ بالذكر أنَّ الأميش هم أتباع جاكوب آمان، وهو أسقف سويسري متشدّد انفصل عن طائفة المينونايت في عام 1693. وشرع الأميش في الهجرة إلى الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، واستوطن معظمهم في بنسلفانيا.

في ثلاثينيات القرن الماضي، لفتوا الانتباه العام ونشأت عنهم صورة رومانسية بسبب مقاومتهم النداءات المُطالبة بإغلاق المدارس الصغيرة التي كان يذهب إليها أبناؤهم. ووجدت الأجيال اللاحقة إعجابًا بجوانب أخرى من أسلوب حياتهم. ففي الستينيات، نظر إليهم متمرِّدو الثقافة المضادة باعتبارهم روادًا في الاعتزال. وفي الثمانينيات، احتُفِي بهم لمهاراتهم الحرفية التقليديّة، وحديثاً، كان مصدر جاذبيتهم هو زراعاتهم العضوية، في ظلّ افتتاح متاجرهم التي تحمل علاماتٍ تجاريّة في مدينة نيويورك.

يُسمَح للغرباء بالانضمام إلى المجتمع، لكنَّ واحدًا فقط من كلّ ثلاثةٍ هو الذي يلتزم بالعقيدة، ويُحَثُّون على إمضاء الوقت في العَيش على أسلوب الأميش لمدة أشهر قبل تعميدهم في الكنيسة.

قد يستخدمون خيلاً وعربةً لجولاتهم في المدينة، وتسمع صوت طقطقة عرباتهم على الطرق إلى جانب الشاحنات الهادرة، لكنَّ الأميش يستقلون سيارات الأجرة والقطارات عند الحاجة.

فقد أوضح دانييل ذلك أنَّ الأميش يرفضون كثيرًا من السلع الحديثة خشية التشبُّه بغيرهم. لذا لا يملكون سياراتٍ مثلاً لأنّ الآلات تعزل الناس عن عائلاتهم الممتدَّة بسهولةٍ كبيرةٍ ويمكن أن تخلق الحقد، ليس لأنها تُعد "آثمةً" في حدّ ذاتها.

الجهل نعمة.. التكنولوجيا نقمة

لا يشتري دانييل الجرائد، لأنّه لا يريد لأبنائه أن يصبحوا مهتمين بالرياضة، واصفًا إياها بـ "التنافسية جدًا والمادِّية للغاية"، لكنّهم يلعبون الكرة الطائرة، وهو يسعَد بقراءة الجرائد إذا وجد واحدةً على متن قطارٍ. لذا فهُم يعلمون بأمر رئيسهم الأميركيّ المثير للجدل، رغم تفضيلهم الامتناع عن العملية الانتخابية.

بالنظر إلى الاضطرابات السياسيّة في العالم، يكاد هذا الجهل يبدو نعمةً. لكنَّ بعض مَن خرجوا عن مجتمع الأميش تحدَّثوا عن جانبٍ مظلمٍ لواجهة الأميش المسالمة: وهو أنَّ من يغادرون الكنيسة قد تقاطعهم عائلاتهم لبقية حياتهم. على سبيل المثال، مُنِعت امرأة من حضور جنازة والدتها، بسبب خروجِها من الطائفة.

إلى ذلك، كتب العضو السابق في الكنيسة إيرا واغلر كتابًا تَصدَّر قائمة الأعلى مبيعاً باسم Growing Up Amish، يحكي فيه قصة هروبه في ستار الليل، حين كان في السابعة عشرة من عمره، ومغادرته الكنيسة أخيرًا بعد تسعة أعوامٍ، في محاولته الخامسة.

واغلر قال: "لقد قدَّس الناس الأميش لكنَّهم مجرد بشرٍ. هناك جوانب طيبةٌ جدًا في ثقافتهم أحترمها، حتى بعدما انضممت الآن إلى عالم الواقع. لقد أُخِذت إلى سطح منزلنا ذات مرةٍ، وأُعطِيت جناح أوزةٍ، وأُمِرت بكنس درجات السلَّم وأنا في سن الثالثة. رسالتهم هي أنك لا تستحق شيئًا ما لم تَعمَل لنَيلِه. لكن إذا نشب حريقٌ في حظيرة أحدهم، تساعده على ترميمها".

واغلر أخبر بأنَّ أطفال الأميش لا يعرفون سوى القليل عن العالم الخارجي. وقال: "كانت طفولتي آمِنةً للغاية، بحدودٍ واضحةٍ قاطعةٍ في مجتمعٍ دافئٍ جداً. شَبَبت في مزرعةٍ، لذا كنا نعمل ونلعب بالخارج في الحقول أو نصيد السمك في جداول المياه. لديَّ ذكرياتٌ دافئةٌ جداً".

لكنّه أشار إلى الجانب السلبيّ من هذه العُزلة، والضغط القويّ للالتزام بالولاء إلى الكنيسة، قائلًا "إنّه تحكُّم في الفكر. كنت تعرف أنك لو خرجت عن هذه الثقافة لذهبت إلى الجحيم. لم أُدرِك حتى منتصف العشرينيات من عمري أنني لا يجب أن أكون من الأميش".

ومثل الآخرين، تحدَّث عن أثر التكنولوجيا، التي يعترف كثيرٌ من الأميش بأنّها تُمثِّل لهم معضلاتٍ وجوديةً. فبعضهم يستخدم بالفعل الهواتف المحمولة، ويستخدم الأطفال سِرًا مواقع التواصل الاجتماعي، وأصحاب الأعمال غالبًا ما يحتاجون إلى بريدٍ إلكتروني وموقعٍ إلكتروني.

وفي هذه الأثناء، قلَّ اعتماد الشركات وبائعي التجزئة على الأوراق الماليّة والعملات المعدنيّة. إذا نشأ مجتمعٌ بلا نقودٍ قد يُجبِر حتى أشدّ الجماعات محافظةً على تبنِّي التكنولوجيا.

من ناحيته، قال إريك ويزنر، مؤسِّس موقع Amish America الرسمي: "تُشكِّل الهواتف الذكيّة تهديدًا على الأميش، ليس فقط بسبب جوانب الإنترنت المظلمة، مثل قابلية الوصول إلى المواد الجنسيّة، بل كذلك طريقته في تغيير سلوكياتنا. لقد اعتدنا جميعًا بسرعةٍ إيجاد الحلول الفورية على الإنترنت. وهذه النوعيّة من الحلول قد تقضي على القيم التقليديّة التي يبجِّلها الأميش، كالصبر والاعتماد على مجتمعاتهم. وعلى عكس السيارات أو عربات الشحن، يمكن إخفاء الهواتف الذكية بسهولةٍ".

لكنَّ ويزنر يؤمن بأنّ الأميش سيتكيَّفون، في ظلِّ مقاومة الجماعات المحافِظة العصر الرقميَّ لأطول مدةٍ ممكنةٍ، كما يقاوم البعض الكهرباء والسباكة الحديثة بينما تحتفظ الغالبية بالصفات المميِّزة كالملابس المتقشِّفة وحظر امتلاك السيارات. وقال: "هم يتغيرون بالتدريج، ولكن بوتيرةٍ أبطأ".

كان أحد التكيُّفات الحديثة نسبيًا هو التحوُّل من الفلاحة إلى إدارة الأعمال. إذ وجدت دراسةٌ أن ما يزيد على 10 آلاف من الشركات المملوكة للأميش في الولايات المتحدة -حيث معدلات الإفلاس أدنى من المتوسط- تجعل منهم على نحوٍ مفاجئٍ روَّاد أعمالٍ، مع أنَّ معظم الأميش يتركون المدارس في سنِّ الرابعة عشرة.

يحظر يودر استخدام الهواتف المحمولة في عمله، ويتساءل عن السبب الذي يجعلك ترغب في توظيف شخصٍ يراسل معارفه نصيًا على الدوام، وأكَّد أنه يلتزم بقِيَم الأميش في عمله. وقال: "جوهر النجاح هو الوصول إلى السلام داخل ذاتك وأسرتك. الأميش يعتبرون الأموال مجرَّد أداة تمكِّنُك من ممارسة دينك. فما جدوى أن تملك سيارات ذكية وتطير إلى جميع أنحاء العالم"؟

لايزال أتباع طوائف الأميش يفضلون العيش بطريقة بعيدة عن التكنولوجيا الحديثة

قبل مغادرة منطقة "موريس"، بأراضيها الزراعيّة الممتدة ولافتاتها التحذيريّة التي تحثُّ السائقين على الاحتراس من العربات التي تجرّها الخيل، أخبرني دانييل بأنّه يعرف أنّ الغرباء يرون نهجهم في الحياة عسيرًا وعفا عليه الزمن. واستدرك قائلاً: "لكن جميع الساعين نحو التحرر يبدو أنَّ أمامهم فخاخًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كلّ سياراتهم وحواسيبهم وتلفزيوناتهم يبدو أنها تجعل حياتهم أشد كآبةً. في الواقع، أرى أنَّ أسلوب حياتنا أسهل".

قد يكون هذا صحيحًا. لكن مع استمرار أعدادهم في الازدياد، لن نعرف إلا مع مرور الوقت إن كانوا سيصمدون في وجه ما يطلق عليه سام ويفر (ابن دانييل الأكبر)، "البذخ والأبهة"، اللذين يتّصف بهما العالم الحديث.

المصدر: عربي بوست + اللواء