ان مفهوم الديمقراطية بمختلف صورها لاسيما السياسية منها وصل الينا والى العوالم الأخرى التي تدين بها عبر اثينا القديمة. وهي كانت تقوم وما تزال على ركائز اساسية هي التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهه تؤدي الى نشوء اكثرية تحكم واقلية تعارض وبذلك يتحقق مبدأ حكم الشعب بواسطة الشعب.
غير ان مسألة الأكثرية والأقلية تثير قضية بالغة الحساسية هي مسألة «النصاب» Quorum وكيفية احتسابه، وما اذا كان يوجد نصاب واحد او اكثر يرعى جميع الحالات؟!
من يطالع الدستور اللبناني يلاحظ ان النصاب الوارد ذكره في بعض المواد ليس واحدا وانما يختلف من موضوع الى آخر. والمقصود هنا نصاب الجلسة او نصاب الحضور ليس نصاب الفوز. فالمادة 34 من الدستور، مثلا تنص على ان النصاب الذي يجب ان يكون متوفرا لكي يكون انعقاد مجلس النواب قانونيا هو اكثرية الأعضاء الذين يؤلفون هذا المجلس. والقرارات تتخذ بأغلبية الأصوات (طبعا المقصود هنا هو الأكثرية المطلقة وهذا مستفاد من سياق الأمور).
اما المادة 49 الشهيرة والتي تطل علينا برأسها مرة كل ست سنوات لأنها تتعلق بإنتخاب رئيس الجمهورية، فحولها جدل كبير ليس لجهة نصاب الفوز وانما لجهة نصاب الحضور، فبمقتضى هذه المادة يفوز برئاسة الجمهورية المرشح الذي ينال ثلثي اعضاء مجلس النواب من الدورة الأولى. اما في الدورة الثانية وما يليها من دورات فالغالبية المطلقة هي شرط فوز المرشح.
اجتهاد مجلس النواب المستمر يفسر المادة 49 بالقول ان النصاب المطلوب لجلسة الدورات التالية هو الثلثان اسوة بنصاب الجلسة الأولى وقد طبق المجلس هذا الإجتهاد في اكثر من عملية انتخابية. لكن بعضا من النواب لا يرى هذا الرأي لأنه يعتبر ان النصاب في الدورات اللاحقة التي تلي الدورة الأولى يجب ان تكون الغالبية المطلقة اسوة بما نصت عليه المادة 34 المتعلقة باجتماعات مجلس النواب.
وحدها المادة 79 المتعلقة بنصاب جلسة تعديل الدستور اعتبرت انه لا يجوز البحث او التصويت على مشروع التعديل ما لم تلتئم اكثرية مؤلفة من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا، وفرضت ان يكون نصاب نجاح التعديل هو ايضا نصاب الثلثين. وكذا الأمر في مسألة اعادة المناقشة في مشروع التعديل. وبهذا تكون هذه المادة قد ساوت بين نصاب الجلسة ونصاب الفوز. ويمكن القول انها واضحة بشكل لا يحتمل التأويل او التفسير.
يبدو واضحا ان المشرع الدستوري اللبناني لم يوحد نصاب الجلسات اي نصاب الحضور. كما انه لم يوحد نصاب الإقتراع. بحيث يظهر جليا ان النصاب يتغير وينتقل من الليونة الى الشدة بحسب نوع القضية التي تكون مطروحة. ففي القوانين العادية لم يلحظ المشرع الدستوري نصابا عاليا. وبالعكس من ذلك فقد تشدد في الحالات الأخرى مثل حالة انتخاب رئيس الجمهورية او حالة تعديل الدستور او حالة اتهام رئيس الجمهورية سندا للمادة 70 من الدستور.
ويجب ان لا يفوتنا هنا ان نذكر بأن عملية احتساب عدد النواب للحصول على الأكثريات المنصوص عنها سواء ما تعلق منها بالحضور او بالفوز قد استقرت ومنذ امد طويل على إحتساب اصوات النواب الأحياء والنواب الغائبين فقط.
وخشية ان يؤدي النقاش المستمر حول بعض المسائل الدستورية لاسيما مسألة النصاب الى بلبلة تشريعية، فقد نص اتفاق الطائف على اعطاء المجلس الدستوري وحده حق تفسير الدستور بحيث يصبح هذا التفسير ملزما للجميع يتقيدون به ما يخلق استقرارا تشريعيا ودستوريا. لكن قانون انشاء المجلس الدستوري حصر بهذا المجلس فقط النظر بالطعون بدستورية القوانين. ولم يذكر موضوع تفسير الدستور وفقا لما نصت عليه اتفاقية الطائف وهكذا يكون مجلس النواب ما يزال هو المرجعية الصالحة لتفسير الدستور.
--------------
* مدعي عام التمييز سابقاً