كان إسمها فيما مضى دعوى «مخاصمة القضاة»، لكن وبما أن القانون أفرد لها أحكاما خاصة وأحاط ممارستها بإجراءات تختص بها وحدها، فصارت من صلاحية الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاؤها هم روؤساء غرف محمكة التمييز. وصارت الحالات التي تجيز اقامة الدعوى محددة على سبيل الحصر بالحالات التالية: الإستنكاف عن إحقاق الحق. الخداع والغش. الرشوة. الخطأ الجسيم الذي يفترض أن لا يقع فيه قاضٍ يهتم بواجباته الإهتمام العادي.
لهذا صارت هذه الدعوى تسمى: «مداعاة الدولة بشأن المسوؤلية الناجمة عن أعمال القضاة العدليين». لأن القاضي لم يعد مسؤولا عن جميع أعماله القضائية وإنما عن بعضها فقط،وهو ما ذكرناه اعلاه وإلا أحجم القضاة عن عملهم خوفا من النتائج التي قد تترتب عن هذه الأعمال.
حار الفقه والإجتهاد في تصنيف هذه الدعوى، فبعضهم اعتبرها طريقاً من طرق الطعن بالأحكام وفريق آخر اعتبرها دعوى مسؤولية شخصية على القاضي ليس إلاّ. في الواقع إن هذه الدعوى هي دعوى خاصة واستثنائية ويجب فهمها من هذه الزاوية.
ومن مظاهر خصوصية هذه الدعوى أن القانون اشترط أن تقام في مهلة شهرين من تاريخ تبلّغ المدعي الحكم او الإجراء المطعون فيه او من تاريخ ثبوت الغش او الخداع او من تاريخ العلم بسبب المداعاة. اي أن من الواجب ان يكون ثمة حكم او قرار او واقعة صدرت فعلا، وأن يكون جرى ابلاغ المدعي فيها.
ولهذا السبب قرر القانون أن تقديم استحضار دعوى المداعاة ليس من شأنه أن يوقف تنفيذ الحكم أو القرار ما لم تقرر الهيئة العامة عكس ذلك. وهذه القاعدة التي تبناها القانون اللبناني هي الأكثر انسجاما مع قواعد قضاء الحكم خاصة قواعد عمل محكمة التمييز. لكن هذا لم يصمد أكثر من العام 1985 عندما أضاف المشترع الى المادة «751» من قانون أصول المحاكمات المدنية نصا يقول «ولا يجوز للقاضي ألمنسوب اليه سبب الدعوى منذ تقديم استحضارها، أن يقوم بأي عمل من اعمال وظيفته يتعلق بالمدعي».
يبدو واضحا أن هذه الفقرة المضافة قد ساوت لجهة المفاعيل بين دعوى المداعاة واستحضار الدفوع الشكلية أو الإجرائية لأن هذا الإستحضار الأخير يرفع أيضا يد القاضي عن الدعوى لمجرد تقديمه وإبلاغه من القاضي المعني به. لكن الفرق بين هذين الوضعين يكمن في أن دعوى المداعاة تقدم ضد حكم او قرار يكون قد صدر في حين أن استحضار الدفوع الشكلية وكما تدل التسمية يهدف الى عدم السير بالمحاكمة قبل البت بصحة هذا الدفع ومطابقته للقانون والواقع بحيث تكون دعوى المداعاة سببا لتوقيف تنفيذ حكم أو قرار صار نافذا ما يخالف قاعدة حجية الأحكام.
زيادة على ما تقدم فإن القانون لم يمنع بالمطلق مبدأ وقف التنفيذ الذي قد تبرره دعوى المداعاة وإنما بعكس ذلك فقد ترك للهيئة العامة لمحكمة التمييز ان تقرر بعد اطلاعها على ملف الدعوى ما اذا كان الواجب وقف التنفيذ ام لا وبذلك يكون الشارع قد انصف القواعد الإجرائية من التعسف بإستعمالها لأن الأمر لم يعد مرتبطا بمجرد تقديم الإستحضار الذي قد لا يكون صحيحا أو مقدما امام مرجع غير مختص ويكون الهدف منه التسويف والمماطلة فقط. وترك للمحكمة أن تقرر مثل هذا الأمر.
يتوقع رجال القانون أن يعمد الشارع اللبناني في أول فرصة تسنح له الى الغاء الإضافة المشكو منها والإبقاء على النص القديم وكذلك تعديل النصوص المتعلقة بالدفوع الشكلية بحيث يحصر بالمحكمة المقدم اليها الدفع وحدها صلاحية تقرير وقف التنفيذ أو عدمه.
* مدعي عام التمييز سابقاً