تقع زيارة رئيس الحكومة نواف سلام والوفد الوزاري المرافق إلى سوريا على مسار التغييرات الجذرية التي تمر بها المنطقة، بعد ما فرضته نتائج الميدان في غزة ولبنان واليمن التي تستكمل فصولاً في التفاوض الأميركي مع إيران حول ملفها النووي. تحظى العلاقات اللبنانية السورية الناشئة باهتمام ومتابعة سعودية تمثلت في زيارة الأمير يزيد بن فرحان مستشار الملف اللبناني لدى وزير الخارجية السعودي صباح أمس لكل من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام قبيل انطلاقه لزيارة دمشق. وقد سبق لوزيري الدفاع في لبنان وسوريا ميشال منسى ومرهف أبو قصرة أن اجتمعا في جدة في 27 من الشهر المنصرم لمناقشة الإشتباكات على الحدود بين البلدين.
يؤسّس إجتماع الأمس لمرحلة مختلفة في العلاقات السورية اللبنانية بما تجسده من إلزامات إقتصادية وأمنية وإجتماعية ومصالح متبادلة ومشتركة يفرضها التجاور الجغرافي، بما يستكمل المشهد الشرق أوسطي الجديد ببعديّه الإقليمي والعربي. لقد سبق للرئيس أحمد الشرع أن عبّر في مناسبات عديدة عن احترامه لسيادة لبنان وحرية قراره السياسي وعزمه إقامة أفضل العلاقات بين الدولتين. وبهذا يمكن اعتبار إجتماع الأمس مبادرة سياسية لحكومة لبنانية لم تشكّل وفقاً لإملاءات دمشق أو حلفائها، أما لجهة مضمون الإجتماع فهو نقاش ندّي حول تعقيدات وتراكمات مزمنة ومتشعبة مع سوريا لم يأتِ استجابة لاستدعاء من دمشق بهدف تلقي تعليمات جديدة أو المساءلة عن أداء لم يحظَ برضاها.
لقد أسقطت سوريا الجديدة كل الشعارات التي رفعها وكل التحالفات التي أقامها آل الأسد لصالح العودة الى كنف العالم العربي والتزام قرارات الشرعية الدولية، فيما لا يزال لبنان يعيش تخبطاً واضحاً حيال ما ألزمته به سوريا وطهران بالرغم من سقوط النظام في سوريا وكارثية ما أدت إليه حروب طهران في لبنان والمنطقة. وهذا يعني أن اختلافات عديدة مرشحة للظهور حيال كل ما يتصل بالقرارات الدولية وما يتطلب التنسيق بين البلدين الجارين.
يريد كل من لبنان وسوريا إزالة شوائب العلاقة السابقة بين البلدين التي أرستها الحكومات اللبنانية المتعاقبة مع نظام البعث في سوريا منذ اتّفاق الطائف. يريد كل من لبنان وسوريا إقفال المعابر الحدودية غير الشرعية ووقف تهريب المخدرات والأسلحة، ويريد لبنان المساعدة في ملفات قضائية عدة وتسليم المطلوبين للعدالة في لبنان في حادثتيّ تفجير مسجديّ التقوى والسلام، كما تريد سوريا تسليمها المطلوبين من أركان النظام السابق الذين لجؤا الى لبنان.
يُجمع البلدان على إلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري المشكّل من رئيسي الجمهورية ورئيس مجلس الشعب في سوريا ورئيس مجلس النواب في لبنان، وإلغاء هيئة المتابعة والتنسيق المشكّلة من رئيسيّ الوزراء وعدد من الوزراء في كلا البلدين، وهي أطر أتاحت لسوريا تقييد القرار السياسي في لبنان والقبض على مؤسساته الدستورية، ولكن ما هي الأطر البديلة التي ستحقق الأهداف المشتركة لكلا البلدين في ظلّ التباين في النظرة الى القرارات الدولية وتداعياتها على قدرة لبنان على الإلتزام بموجباتها؟
كيف يمكن وضع إطار مشترك لبناني سوري يحظى بالدعم الدولي للسيطرة على الحدود الشرقية والشمالية دون إعلان لبنان استكمال تطبيق القرار 1680 بانتشار الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الشرعية على الحدود؟ وكيف يمكن ترسيم الحدود البرية حتى مزارع شبعا مع سوريا وإسرائيل دون قراءة واضحة لإتّفاق وقف إطلاق النار لجهة إلزامية نزع السلاح من كل لبنان وبسط سلطة الدولة؟ ويندرج في هذا الإطار مسائل عديدة كترسيم الحدود البحرية مع سوريا، والقدرة على تسليم السلطة السورية الجديدة المطلوبين من أركان البعث الذين لجؤا الى لبنان، دون استكمال بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية بمعنى اكتساب القدرة على تطبيق القانون في كل لبنان !!!!!
وفي هذا السياق يمكن فهم الدور الذي ترومه المملكة العربية السعودية من خلال المواكبة الحثيثة لإنطلاقة العلاقات اللبنانية السورية المستجدة سواء لجهة وضع الإطار والضوابط الإقليمية والدولية بما لا يتجاوز القرارات الدولية 1701 و1559 و1680، وبما يضبط الأولويات المتضاربة لكلّ من لبنان وسوريا حيال الملفات الكثيرة المطروحة بينهما. وفي مطلق الأحوال يقف الحكم في لبنان الآن أمام اختبار القدرة على التحرر من رواسب مرحلة إنقضت والإنتساب الى حقبة جديدة، وتبقى العلاقات اللبنانية السورية في ضوء ذلك محكومة بالإنتقال من مرحلة الوصاية إلى وضعية قيد الدرس.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات