د. محمد قاسم المنسي*
يشكّل الزمن أحد أهم عناصر تحقيق النهضة والارتقاء لأية أمّة على الأرض، لأنه يُعدّ من أهم لوازم التخطيط والإعداد للعمل التنموي والانتاجي، فهو الوعاء الذي يحتوي جميع أعمال البشر، وهو النهر الذي يفيض على الجميع دون إستثناء، لكنه يصنع (ثروة) في مكان، وفي مكان آخر يصبح (عدما) حسب تعبير مالك بن نبي.
والسؤال هنا: لماذا يصبح الوقت (ثروة) في مكان، و(عدما) في مكان آخر؟... مع ان الوقت الذي يمرُّ على الجميع واحد، لا يزيد ولا ينقص..؟! فهل يعود الأمر إلى الوقت نفسه؟
أم يعود إلى البشر وسلوكهم وثقافتهم ومدى استعدادهم لإستيعاب السيل المتدفّق من مياه النهر؟!
ومن الغريب - في الأمر - اننا في العالم الإسلامي، لدينا نظرة خاصة إلى الزمن؛ إذ ترتبط العبادات الإسلامية به، فدخول الوقت أحد شروط صحة العبادة، وانقضاؤه ينقل التكليف من درجة (الأداء) إلى درجة (القضاء)، ومن الواجب (الموسّع) إلى الواجب ( المضيّق).
ولا يقتصر الأمر على العبادات وإنما يمتدّ ليشمل المعاملات والحقوق والالتزامات والواجبات الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي ربطت فيها الشريعة بين الأفعال الإنسانية والعلاقات الاجتماعية والأحكام الشرعية، على أساس أن الأحكام ليست أوصافا ثابتة وملتصقة بالأفعال المحكوم فيها، وإنما هي علاقة متغيّرة بحكم عوامل عديدة من أهمها عامل الزمن والأشخاص والظروف المحيطة بالأفعال ولذلك تختلف الأحكام باختلاف كل هذه العوامل، فيكون الحكم على الفعل الواحد مختلفا بحسب الفاعل، والظروف التي تحيط به.
ومع ما سبق، فإن ثقافة استثمار الزمن تكاد تكون من الفرائض الغائبة عن المسلم المعاصر، الأمر الذي يُعد من أهم أسباب التراجع الحضاري في العصر الحديث.
ومن هنا يطرح مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) حلّا عمليا لإنهاء حالة الخصومة مع الزمن وبدء مسيرة إنسانية جديدة تقوم على مبدأ احترام الزمن وتقديره، كي يصنع الثروة عندنا كما صنعها عند غيرنا..
يقول مالك بن نبي: «لكي نعلّم المسلم علم الزمن، لا بد أن نعلّم الطفل والمرأة والرجل تخصيص (نصف ساعة) يوميا لأداء واجب معيّن، فإذا خصّص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعّالة، فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية، وستثبت هذه النصف ساعة عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع وفي سلوك أفراده، فإذا استغلّ الوقت هكذا فلم يضع سدى بلا فائدة، ولم يمرّ - أي الوقت - كسولا في حقلنا، وسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي».
وهذه هي الحضارة..!!؟
* أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم
- جامعة القاهرة