بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تشرين الثاني 2022 12:00ص الحرب لا يُحفظ بها الموجود.. ولا يُسترجع بها المفقود

حجم الخط
العلّامة السيد علي الأمين*

-كيف نتجنّب الحروب؟..
إن ما تنتجه الحروب من أخطار على المجتمعات البشرية لا يحتاج إلى كثير بيان.
وقديماً قال الشاعر:
وما الحربُ إلّا ما علمتمْ وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
وقد شهدت مع الكثير من أبناء جيلي في لبنان حروباً داخلية وخارجية مرّت عليه، ورأيت فيها بأم العين ما يحصل من آلام وأحزان للناس بسببها، وقد خرجت من تلك الحروب ومآسيها بمقولة، وهي (إن الحرب لا يُحفظ بها الموجود، ولا يُسترجع بها المفقود).
وقد أحسن القائمون على منتدى أبو ظبي للسلم الإختيار لعنوان الملتقى التاسع الذي يبحث عن سبل إبعاد الحرب وتحقيق السلم بين البشر.
ولا شك بأن الحروب والصراعات وما ينتج عنها من المآسي لم تكن بسبب الأديان، وإنما كانت بسبب طموحات الإنسان غير المشروعة للسلطة والسيطرة والنفوذ، وهذه الحروب قد ظهرت قبل المذاهب والأديان وبعدها، وقد أزهقت الحرب العالمية الأولى والثانية أرواح ما يقارب مئة مليون إنسان، وأسباب الحرب لم تكن دينية. وإن تم استغلال الأديان في بعض الحروب بالباطل أحياناً والتلاعب بنصوصها وتشويهها من أجل تبرير تلك المنكرات باسم الله والدّين، فالمسيحية ليست مسؤولة عما جرى من حروب بإسمها، والإسلام ليس مسؤولاً عما جرى من حروب بإسمه، فالإنجيل يقول (لا تقتل) والقرآن يقول {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} ولكن يبقى الفاعل هو الإنسان الذي ابتعد بأطماعه وخطاياه عن الرحمن الرحيم.
وقد ورد الإصلاح بين الناس في كثير من النصوص الدينية التي تؤسس لقاعدة السلم بين عموم الناس شعوباً ودولاً، وهي المعبّر عنها بالسلم العالمي، لأن الدعوة إلى الإصلاح بين الناس تتضمن الدعوة إلى فض النزاعات بينهم وإقامة العدل فيما بينهم.
وقد جاء ما يشير إلى قاعدة السلم هذه في الكثير من الآيات الآمرة بالعدل بين الناس والإصلاح بينهم كما في قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} وقوله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ومنها الآيات الناهية عن الظلم والبغي والعدوان.
وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب الأنصاري (قال: ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النعم؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرّب بينهم إذا تباعدوا)، (والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه)، (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومن الواضح أن هذه التشريعات لا تخصّ المسلمين بعضهم مع البعض الآخر، بل هي شاملة لكل مكوّنات المجتمع من المسلمين وغيرهم، وهي تخاطب المسلمين بالإلتزام بهذه الخصال والأحكام سواء كانوا في ديارهم أو في ديار قوم آخرين، باعتبار ورود كلمة الناس في بعض تلك الأحاديث وكلمة الجار المطلقة وغير المقيّدة بدين أو مذهب.
تربية تؤسّس لعلاقات تقوم على السلام
ولا شك أن هذا النحو من التعاليم يصنع تربية تؤسس لعلاقات تقوم على السلام والوئام بين مختلف المجتمعات، ويكشف عن أن السلم في الشريعة مقصد من المقاصد وغاية من أسمى الغايات، بل يمكن القول بأن السلم العام بين البشر يشكّل الحاضنة لكل المقاصد والغايات الأخرى، فإن الغاية من تعدّد الخلق وتنوّعهم كما في قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} هي التعارف بين البشر، وهو يعني التواصل فيما بينهم، ولم يجعل الله الغاية من التعدد هي التحارب بين الشعوب والقبائل، فلم يقل فيها (لتحاربوا) وإنما قال فيها (لتعارفوا) ويضاف إلى ذلك ما دلّ على تكريم الإنسان كقوله تعالى {وكرّمنا بني آدم} وقوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وما دلّ على أن الرسول لم يبعث لعّاناً وأنه بعث ليتمّم مكارم الأخلاق.
إن هذه النصوص الدينية المتقدمة من الآيات المحكمة والأحاديث الصريحة تدلّنا بوضوح على أن الشريعة تؤسس لقاعدة السلم بين الناس وأن الحرب هي الإستثناء، وأن ما يسمّى بدعوة الجهاد إلى الحرب ينحصر بالجهاد الدفاعي، وليس جهاداً لفرض الدعوة الدينية على غير المؤمنين بها، كما يستفاد من قول الله تعالى {لا إكراه في الدين}.
ومما تقدّم يظهر لنا أن الإسلام شرّع الحرب في حالة الدفاع عن النفس وهو ما يسمّى عند الفقهاء بالجهاد الدفاعي، فالإسلام يرفض العدوان والتوسّع وهو في الأصل يدعو إلى السلم كما جاء في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنو ادخلوا في السلم كافّة} ويدعو إلى العيش بسلامٍ وعدلٍ مع الآخرين الذين لم يعلنوا الحرب عليه كما جاء في قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون} واعتبر الإسلام أن الاعتداء على حياة الفرد اعتداء على الإنسانية جمعاء كما جاء في قوله تعالى {من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}.
وقد أحسن منتدى أبو ظبي لتعزيز السلم بتوجيه من رئيسه العلّامة الكبير الشيخ عبدالله بن بيه -حفظه الله- على تركيز الجهود المشكورة على بحوث السلم وإظهار منافعه للبشرية وبيان مخاطر الحروب والصراعات على العالم، وذلك في سبيل نشر ثقافة السلم والاعتدال والتسامح بين الأمم والشعوب، وقد بقي اختيار حلف الفضول بمبادئه الإنسانية والسلمية موجوداً في مختلف الأنشطة الفكرية والحوارية بين أهل الفكر والقلم والدين، وفي ذلك السعي الدؤوب لترسيخ تلك القيم في مجتمعاتنا.
حلف الفضول
ويعتبر «حلف الفضول» الذي قام على الفضائل محطة من المحطات المضيئة في التاريخ البشري في منطقة الجزيرة العربية قبل الإسلام، وقد أقرّه النبيّ عليه الصلاة والسلام عندما أتى على ذكره بالمدح والثناء وبالدعوة إلى مثلها في الإسلام، وقد وصفه بأنه حلف أحبُّ إليه من حمر النّعم، وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب، وهو المبعوث رحمة للعالمين، وهو القائل: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وهي محطة تكشف لنا عن إمكانية وصول المجتمع البشري إلى صيغ من العيش المشترك تحفظ حياتهم ويديرون بها شؤونهم من خلال منظومة المبادئ والقيم الإنسانية التي أدركوا حسنها بعقولهم وفطرتهم السليمة وتجارب الحياة، فعرفوا منافعها وأدركوا ضرورة التمسّك بها في نظم أمرهم وقيامة مجتمعهم، وموقف الدين منها هو موقف الإمضاء والإقرار، وهذا ما يتفق مع دعوة الدين لنا إلى الدخول في السلم، كما تقدّم. ويبقى أن يقال بأن ما يعمل له منتدى أبو ظبي لتعزيز السلم في المجتمعات بتوجيهات وتعليمات العلّامة الكبير الشيخ عبدالله بن بيه حفظه الله وشكر جهوده ومسعاه، لنشر ثقافة السلم والحوار تنحسر ثقافة التطرف والإرهاب، وتبتعد لغة الحرب بين الدول والشعوب، وتنطفئ جذوتها خصوصاً عندما يقوم السلام على العدالة التي لا يفارقها الاعتراف بحقوق الآخر، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

* نص كلمة العلّامة السيد علي الأمين في منتدى أبو ظبي للسلم