الشيخ يوسف جمعة سلامة*
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب مَنْ سَنَّ سُنَّة حسنة أو سيئة ، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة .
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على العلماء والدعاة الذين يحرصون على هداية الناس والأخذ بأيديهم من الظلمات إلى النور ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهم أحسن الناس قولاً لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يحملون لواء الدعوة من بعدهم، وميدان عملهم هو أشرف ميدان؛ لأنهم يقومون بتعريف الناس بالحلال والحرام ، كما جاء في الحديث الشريف: (...إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).
وقد ذكر صاحب كتاب صفوة التفاسير في تفسير الآية السابقة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإسلام دينه ومذهبه، قال ابن كثير : وهذه الآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث : أن يكون مؤمناً معتقداً لدين الإسلام ، عاملاً بالخير، داعياً إليه، وما هم إلا طبقة العلماء العاملين).
الدعاة لا تنقطع أجورهم
من المعلوم أن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم الناس أجراً كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا).
إن هذه الشريحة الحريصة على هداية الناس تُحب الخير للناس جميعاً، فهم يُشِفقون على غيرهم ويتمنون لهم السير على الطريق المستقيم وتطبيق شرع الله، كما جاء في الحديث: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)، كيف لا ؟ وقدوتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أحرص الدعاة على هداية البشرية جمعاء إلى الخير، كما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سَهْل بْن سَعْد: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ لعليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- : (... فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ).
عند دراستنا للحديث السابق نتعرف على الأجر العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى للدعاة المخلصين، وعندما نتأمل هذه المكرمة التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها الداعية عندما يكون سبباً في هداية رجل واحد، فكيف إذا كان الداعية سبباً في هداية أمة أو جماعة من الناس ؟، وكذلك إذا كان سبباً في إحداث تغيير واضح وملموس في حياة الأمم والشعوب، فلا شكَّ أن أجره سيكون أكبر وأعظم عند الله سبحانه وتعالى، فهنيئاً للدعاة الهداة أجرهم وكرامتهم وفضلهم فهم المصابيح الهادية، حيث إنهم حريصون على هداية الناس وإسعادهم في كل زمان ومكان.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ
بي مِن النَّارِ
عند دراستنا للسنة النبوية الشريفة نجد أن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الناس إلى الإسلام والحق والخير في جميع الأوقات، ومن ذلك ما رُوي عَنْ أَنَسِ بن مالك – رضي الله عنه - (أَنَّ غُلامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَعُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِدٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : يَا فُلانُ قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَنَظَرَ إِلَى أَبيهِ فَسَكَتَ أَبُوهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى أَبيهِ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ الْغُلامُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه، فَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بي مِن النَّارِ).
انظر أخي القارئ إلى حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على دعوة هذا الغلام إلى الإسلام رغم مرضه الشديد؛ حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على هدايته، فهذا درس لنا جميعاً بوجوب الحرص على هداية الناس في جميع الأوقات، وهذه هي المهمة الأساسية للدعاة الذين يحملون هذه الأمانة ويبلغونها، فأهمية الدعوة تكمن في أنها تهدف إلى إسعاد البشرية في كل وقت، ونحن في هذه الأيام في أمسِّ الحاجة إليها؛ لإقامة المجتمع الفاضل الذي يقوم على الحق والخير والمحبة.
لعل الله يـُخْـرج من أصلابهم مَنْ يعبدُ الله
عند دراستنا للسيرة النبوية الشريفة نتعرف على بعض المواقف العظيمة التي تُظهر حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس ودخولهم في الإسلام، وصبره في سبيل ذلك رغم ما يلحقه من الأذى من قومه ، حيث أساءوا إليه صلى الله عليه وسلم وأغروا سفهاءهم بإيذائه، عندئذ بعث الله سبحانه وتعالى له ملك الجبال مع أمين وحي السماء جبريل – عليهما الصلاة والسلام – ليأمره بما شاء من إيقاع العذاب بهم ، كما أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عروة أنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثتْهُ (.... إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا).
من المعلوم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى الطائف لعله يجد الأنيس والنصير، فسبوه وشتموه ورجموه، فجاءه الملك يعرض عليه أن يُطبق عليهم الأخشبين، فقال - عليه الصلاة و السلام-:
«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا»، لم يشتمهم ولم يلعنهم، بل دعا الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله، وفعلاً استجاب الله دعاءه فخرج من صُلْب أبي جهل – عدو الله اللدود – الصحابي الجليل عكرمة، وخرج من صُلْب أمية بن خلف – الكافر- الصحابي الجليل صفوان، وخرج من صُلْب الوليد بن المغيرة – الكافر – سيف الله خالد.
ما رأيتُ معلماً أحسنَ
تعليماً منه صلى الله عليه وسلم
أخرج الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيّ، قَال:
(بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاه، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي ، لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّه ِ صلى الله عليه وسلم ، فَبأَبي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ، لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبيحُ وَالتَّكْبيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ).
فعلى الداعية أن يعامل الناس بلطف، وأن يُرَغبهم في دين الله بالكلمة الطيبة والقدوة الصالحة والنية الخالصة، حتى يوفقه الله ويشرح صدور الناس لقبول دعوته بفضله سبحانه وتعالى، فليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء.
إن الواجب علينا جميعاً أن نسير على هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ، فمن صفات المؤمنين الصادقين أنهم حريصون على هداية الآخرين إلى طريق الحق والخير، كما أنهم ملتزمون بالكلام الطيب مع الناس جميعاً.
*خطيب المسجد الأقصى المبارك والنائب الأول لرئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس