لا شك أن الثورة التي اندلعت في لبنان منذ 17 تشرين الأول أفرزت العديد من حالات الفقر التي يعيشها أفراد المجتمع... ولكن هبّ جميع اللبنانيين لنصرة بعضهم البعض، منهم من حثّ المحتاجين على الشراء من متجره أو بسطته بدون مقابل كي لا ينام أولاده جائعين، «رزقي ورزقك على الله».. ومنهم من نشر البسطات التي وضعت عليها أكياس المواد الغذائية والخبز ليأخذ منها المحتاجين... ممنوع ينام أحد جائعا..
ومنهم من سارع في المساعدة لشراء الأدوية وتأمين كلفة العلاج للمحتاجين...
صورة التآخي التي أظهرها الشعب اللبناني تجسّدت في العديد من المناطق حيث نزعت الطائفية والمذهبية وهبّت لنجدة الإنسانية..
التآخي والرحمة التي حثّنا عليها ديننا الإسلامي كي لا يبقى محتاج أو فقير، وتجسّد ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أمَنَ بِي مَنْ باتَ شَبْعانَ وجارُهُ جائِعٌ وهُوَ يَعْلَمُ بِهِ..».
هذه الصورة الحقيقية لضرورة التآخي والتراحم بين أفراد المجتمع اللبناني والتي ظهرت بعض مظاهرها في ثورة 17 تشرين الأول.. ماذا يقول العلماء حولها؟
عودة
{ الشيخ ياسر عودة قال: هذه الأفعال التي قامت بها فئات من الشعب اللبناني من كل الطوائف في مساعدة بعضهم البعض ومد يد العون لاخوانهم، لهو دليل على طيبة هذا الشعب الذي كان مأسوراً ومغتالاً من قبل السياسيين بغبار من الطائفية لعشرات السنين الماضية، ولكن الحمد للّه ان قسماً من هؤلاء عَبرَ زعمائه وأحزابه والتفّ حول بعضه البعض منذ حرائق الجبل إلى 17 تشرين الأول وإلى غرق لبنان بالأمطار الذي يظهر مرّة بعد مرّة فشل هؤلاء الحكام والسياسيين وإدارات الدولة التي نخرها الفساد... مضيفاً ان الإنسانية العظيمة تجلّت في تصرّفات هذا الشعب الذي يئنّ من الألم، ولكن لا زالت هناك نسبة من اللبنانيين يعيشون كما كان عبيد البيوت في أميركا يفشّلون أي ثورة لعبيد الحقول المعذّبين ضد أسيادهم لأنهم كانوا يفضّلون فتات أسيادهم على حريتهم.
وأضاف: من المؤسف ان دور العلماء في كل هذه الأزمة كان شبه مفقود حيث ان العلماء في كل الطوائف في وادٍ والناس في وادٍ آخر إلا القليل من الجادّين الذين لا يخافون لومة لائم ولا يعيشون على قراريط السلطة هؤلاء لا تتعدّى نسبتهم واحد في المئة، مع الأسف الشديد ان دور العلماء أن يصنعوا التآخي والمحبة ليس بين أبناء الوطن الواحد بل بين أبناء الأمم، والدعوات للّه سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم التي تدعو إلى التآخي بين أبناء المجتمع.
لكن للأسف هؤلاء كانوا غائبين منذ عشرات السنين ولا يترجمون عقائد الإسلام والمسيحية أيضاً، هم يستعملهم السلطات في سياسته ومآربه، فهؤلاء كانوا مثالاً لرجال الدين المستقلّين من وظائفهم وكانوا مثالاً لعلماء السوء، وهذا من أقبح أنواع الظلم.
وختم قائلاً: أتمنى في نهاية المطاف أن يستفيد هؤلاء النّاس الذين لا يزالون يهتفون بإسم زعمائهم ولهم الحق أن يهتفوا بإسم أي زعيم يريدون لكن ليس لهم الحق أن يعاملوه معاملة الإله، وعليهم أن يحاسبوه... لأن المأساة عدم إمكانية شراء الدواء، وعدم وجود الطعام والشراب هل ينطبق عليهم اسم البشرية لأن الإنسان الذي يحترم إنسانيته لا بدّ أن يخرج من عباءة تاريخ السلطة، أن يخرج من عباءة الزعيم إلى عباءة العقل إلى رحابة الحرية التي أعطاهم الله إيّاها والذي لم يقصد أن يعطيها لأحد كما قال جعفر الصادق «ان الله فوّض إلى المسلم أموره، إلا أن يذل نفسه» وللأسف هؤلاء ذلّوا أنفسهم وذلّوا غيرهم وكانوا سبباً في إشتعال ثورة السابع عشر من تشرين الأول.
مزوق
{ أما رئيس دائرة الفتاوى في دار الفتوى الشيخ وسيم مزوق فقال: يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ويقول أيضاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد مدح الله عزّ وجلّ حبيبنا محمداً صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم ووصفه بالرحمة العالمية ومن هذه الرحمة أن يتراحم النّاس فيما بينهم وهذه الرحمة ليست خاصة بالمسلمين فقط بل على المسلم أن يرحم جاره وصديقه سواء كان مسلماً أو غير مسلم شرط عدم إيذاء ومحاربة الأخير، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}.
وأضاف: ولا يخفى على أحد اليوم ما يمرّ به وطننا لبنان العزيز من أزمات سياسية واقتصادية ومادية واجتماعية، ونشاهد على التلفاز ان الشعب اللبناني وللّه الحمد اتّحد حيث نبذ الطائفية والمذهبية ونرى العيش المشترك والمحبة والمودّة فيما بينهم، وهذا يحثّ عليه الإسلام أن يُساعد المسلم جاره بأن يطعمه أو أن يسقيه أو أن يؤمّن له الملبس أو المأوى، فقد قال صلى الله عليه وسلم «ما أمَنَ بِي مَنْ باتَ شَبْعانَ وجارُهُ جائِعٌ إِلى جَنْبِهِ وهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» فلا يقل صلى الله عليه وسلم جاره المسلم بل عمّم جاره، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، وقد ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم «المُؤمِنُ مَن أمِنَه الناسُ» أي جميع النّاس «والراحمون يرحمهم الله» فعندما نتراحم فيما بيننا يرحمنا الله، وهنا دور الدعاة والعلماء أن يعلّموا المسلمين والناس جميعاً التراحم مع المحافظة على الحدود الشرعية المحافظة على عقيدتنا الإسلامية.
ومن هنا، أدعو جميع النّاس في هذا الطقس البارد وفي ظل الطوفان الذي نشهده للأسف بسبب تقصير المسؤولين وبسبب تقاعسهم عن القيام بواجباتهم وبسبب نهب البعض لأموال العباد والبلاد فقد شرّد بعض النّاس وأصبحت بدون مسكن، فعلينا أن نكون يداً واحدة كل منّا يتبرّع حسب استطاعته سواء بالأمور المادية ولو كانت قليلة فهي عند الله كثيرة أو بالأمور العينية كالثياب والأحذية والبطانيات.. فليفتح كل واحد منّا خزانته أو خزانة أولاده ولينظر إلى الثياب التي ليس بحاجة لها وهي جيدة الحال فليتصدّق بها، قال تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، ولنقم بمشروع الكفالة أو التآخي بين العائلات بمعنى ان العائلة المقتدرة التي تعدّ الطعام وهي تعلم بعائلة أخرى في المبنى نفسه أو في الحي أو في المنطقة ليس عندها طعام فلترسل إليها الطعام، فطعام واحد يكفي لإثنين وطعام لإثنين يكفي لثلاثة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي الصحابة بأن يكثروا المرقة وأن يوزعوا على الجيران، وهذا ديننا دين السماحة والرحمة والمحبة والسلام والإخوّة، وكل ذلك فرصة لنا لنظهر سماحة الدين الإسلامي الحنيف عسى ذلك أن يكون سبباً في هداية النّاس ودعوتهم إلى التعرّف على حقيقة الإسلام.
وتابع قائلاً: وما نشاهده من التعاون الفعلي والعملي وليس النظري فقط على أرض الواقع حيث يؤمّن فلان لفلان الدواء أو يشتري فلان من بسطة فلان بدون دفع الأموال ويتمُّ قسمة ما يحصّله الفرد من المال مع اخوانه حيث كان ذلك غير موجود سابقاً أو كان بصورة يسيرة لأن المؤسسات مقصّرة وضعيفة، فالأفراد يقومون بمبادرات خيرية وتكافلية سدّاً للنقص الذي تعاني منه العائلات الفقيرة العفيفة التي لا تمتهن مهنة التسوّل، فكم فُجعنا عندما رأينا أحياء فقيرة في طرابلس وفي غيرها، وعندما سمعنا بحالات الانتحار هنا وهناك بسبب الضغوطات المادية حيث تكاثرت المصائب على ربِّ المنزل في الدين وأقساط المدرسة وثمن الدواء وعلاج المرضى في عائلته فأدّى به هذا الحال إلى الانتحار، مع اننا نشدّد على حرمة الانتحار، وهذا ليس بمبرّر له، وندعو الله أن يرزق جميع النّاس الصبر والحكمة وندعو إلى الاعتصام بحبل الله والدعاء، ونذكّرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصا» أي جائعة وتروح بطاناً.
واختتم قائلاً: نسأل الله أن يولي علينا خيارنا وأن يصرف عنا شرارنا وان لبنان الحبيب يحتاج إلى مسؤولين لديهم الخبرة والكفاءة والعدالة حتى يقوم البلد من الأزمات التي يعيشها، وأيضاً علينا أن نترك ونهجر المعاصي والذنوب والزنا والربا والرشوة التي انتشرت في البلاد، فعمّ الفساد وجاء العقاب، فان تبنا إلى الله وأصلحنا حالنا وتركنا تعظيم وتقديس الزعماء المفسدين يأتي الخير وتحلّ السعادة وينتشر الأمن والأمان في وطننا العزيز لبنان.